فارس الحباشنة
رجل فاضل ووقور يجول في باصه الصغير «فان» على مطاعم وقاعات افراح وبيوت، ويدق الباب، ويسأل عن بقايا الطعام.
الفكرة ببساطة ودون تنظير، وكلام كبير عن هدر الطعام، اندفع الرجل نحوها، ومن كثرة ما يرى من هدر للطعام وفقراء لا يجدون قوت يومهم.
التقيت بالرجل صدفة في مناسبة اجتماعية، ودخل على المعزب، وطلب منه بعد انتهاء العزومة ان يقوم بجمع بقايا الطعام. و صراحة، كنت قبل اسابيع كتبت مقالا عن هدر الطعام. كنت اظن ان الرجل الوقور قرأ مقالي.
سألته ضحك، وقال لي، نعم اني اقرأ الدستور من نصف قرن.
مبادرة الرجل ايجابية، ولم تخطر على البال ان رجالا يكلف نفسه في محمل الجد ، ولكي يمنع هدر الطعام ويجمع بقايا الطعام، ويوزعها على المحتاجين. فكرة بغاية الانسانية، وطلبت منه ان اصوره، واكتب عنه بصريح القول والتعريف عن هويته وشخصه الكريم ومبادرته الاجتماعية النبيلة . و لكنه، رفض واعتذر، وقال هذا عمل خير، واقدمه لوجه الله تعالى.
و هو خبير في خارطة الفقر في عمان وجوارها، اتحدى انه على علم ودراية بالفقر والفقراء اكثر من وزارة التنمية الاجتماعية وشبكات العمل الاجتماعي الاخواني وغيرها .
يجمع بقايا الطعام من المطاعم وقاعات الافراح، ويعيد توزيعه في اكياس على شكل وجبات، ويوزعها على عائلات وجمعيات، ومساجد. و اعترف لي بحقائق موجعة عن فقر عمان، وقال: هناك عائلات لا يجدون ما يأكلونه من الطعام، ولا يأكلون الا بقايا الطعام التي اوزعها.
عائلات مستورة لا تعرف طريقا الى التسول والشحده، والاستجداء في الاعلام، وفي اعلامنا الاذاعي اصبح هناك برامج متخصصة وزملاء مختصون في التسول و الشحاده . اصابني الرجل الوقور بعدوى جمع الطعام، وصرت لما اسير في الشوارع، واجد بقايا طعام اقوم بجمعها، ووضعها في اكياس.
و عندما اعثر على سندويشة ووجبات طعام ملقاة على الارض دون احترام للنعمة ارفعها واجمعها. ومن بقايا الطعام، ما لا يصلح للاستهلاك البشري، ولكن تأكله حيوانات وعصافير، وقطط، وكلاب.
ولما اخرج من شقتي في العمارة، اتفقد زبالة الجيران، واذا ما عثرت على طعام اقوم بجمعه ورفعه، وتوزيعه. يوميا تصادف مئات من الناس لا يملكون مالا ولا يقوون على شراء الطعام. و عائلات تنام على لحم بطونها، ينام الاولاد جوعى، يصرخون ويتألمون من الجوع. في الاردن..الطعام يلقى على الارض ليس ترفا ولا بذخا، انما قلة احساس بالمسؤولية الاجتماعية والاخلاقية، ومن باب الهدر الاحمق.
كتبت هذه السطور تعليقا على مبادرة الرجل الوقور التي افرحتني، واتمنى ان تعمم ضمن شبكات العمل الخيري والاجتماعي ، وما سمعته ايضا من تحذيرات اطلقها وزير الزراعة النشيط والحكيم خالد حنيفات عن هدر الطعام.
و قال : ان هدر الطعام في الاردن يصل الى مليون طن سنويا.
و حنيفات يتحدث عن هدر الطعام، وهو متوجس ويفكر في حسابات الامن الغذائي. و مفهوم الامن الغذائي بعد كورونا وحرب اوكرانيا تغير معجميا واصطلاحا، ومنطوقا. و الامن الغذائي، عبارة اذا ما وضعت على طاولة صناعة القرار فانها الاشد رعبا وقلقا في حسابات السيادة الوطنية.