… هذا الصباح داهمني البكاء , صرت مثل ذئب جريح طريد كسير يبحث عن نجاة ..في غابة بعيدة من دون بشر أو حياة ….
لقد شاهدت الطفلة السورية , المحجوزة تحت الأنقاض وهي تغني وتبكي وترجو رجل الإنقاذ أن يخرجها من تحت الردم , لقد قالت له : (عمو طلعني من هون وبكون خدامتك) …كيف سمحنا لأطفال سورية أن يكونوا (خدما) ؟..كيف سمحنا لأنفسنا للضمير العربي العاري والعاجز ..بأن يقبل لطفل من سورية الحب والحياة , بأن يكون (خادما) …؟أو أن يستعمل هذا اللفظ .
يا ابنتي ..والله لوطلب مني أن أكون مكانك تحت الردم , لقدمت جسدي (وطز في جسدي) لقاء أن لا تصبح العروبة كذبة وهراء كما قال نزار قباني …..نحن الخدم يا طفلتي , أما أنت فسيدة الشام ستبقين …وستبقين وارثة الحضارة الأموية ..ألست بنت (سورية) التي أقيم على ترابها أول دولة إسلامية بشرت بالحياة والعدل والمساواة والتقدم ؟….ألست يا طفلتي بنت (سورية) التي انجبت سلطان باشا الأطرش زعيم الثورة وزعيم البنادق وزعيم الرجولة وانبل من حمل الشوارب في تاريخ العرب ….ألست الوريثة الشرعية لابراهيم هنانو وصالح العلي ؟…ألست التي تحدرت من الياسمين الدمشقي وارتوت عروقها بقصائد نزار …؟
نحن الذين تحت الردم ولست أنت , نحن الطغاة والبغاة …نحن الذين تركنا زيتون الشام , تركنا التراب والحجر وتنكرنا لبردى …بردى الذي انتج المدنية في العالم العربي , حين جعل مسيحيا من بلاد الشام ..بلاد الإسلام المعتدل والجوامع والمشايخ والحياة …جعله وزيرا للأوقاف وحاكما على سورية ….ونحن الذين تنكرنا لميسلون وفيصل ..وتنكرنا للدم السوري الذي سال وهو يقاتل الإستعمار الفرنسي ويعلم الدنيا أن قاسيون لايركع ولا يخضع ولا يهزم …
نحن الذين نسكن تحت الردم يا بنيتي …نحن الذين قمنا بالزنا العلني واقترفنا الخطيئة , حين سمحنا لسادة الشام وأولادها الغر …وسمحنا للنساء اللواتي رقصن التاريخ مثل رقص (الخلاخل) في أقدامهن المصقولة بالمسك والعنبر ..بأن يطفن عواصم الغرب والشرق تحت مسمى اللجوء , وتحت معونات سخيفة لا تبدأ بالخيمة ولا تنتهي بكيس الطحين ….نحن الذي قمنا بالزنى العلني بالوتر واللحن في حلب , وحلب لم تكن مدينة ….حلب كانت اختصارالدنيا والعمر ..حلب كانت ميلاد الوتر وميلاد الحضارة والتقدم والحياة .. من حول حلب لمقبرة للأطفال ومقبرة للحضارة غيرنا يا بنيتي …من ؟
أبكي مثل ذئب جريح طريد يبحث عن منفى ومستقر أخير وموت …من دون شماتة أحد , أبكي يا ابنتي لأنك لست طفلة ..أنت سورية , أنت (معلولة) التي تاهب اللغات فيها , فما زال الصليب والحجر والراهب والشعب هناك يصر على الحديث بالارامية ….أنت فهد بلان وفؤاد غازي ودريد لحام ومحمد الماغوط , الذين علموا العالم العربي كله أن لا سلطة فوق سلطة الفن والإبداع …لقد أسس المثقف في سورية جمهورية للغة حين قاد مجمع اللغة العربية في دمشق الدراسات اللغوية كلها في عالمنا العربي.., أسسوا جمهورية الفن حين كان الغناء ينطلق من إذاعة دمشق …ولا صوت يعلو على العروبة والهوية في صوت صباح فخري ….أسسوا جمهورية الفكر حين اعتلى مفكرا من سورية الحبيبة , ناصية العقل العربي وهو (جورج طرابيشي) ..وتصدى لمن حاولوا أن يربطونا بالرجعية والتخلف ..وبأن الشرق كان عبئا على الغرب العربي …أسسوا جمهورية الدم , حين قاد يوسف العظمة معركة ..افتتح عبرها باب النزف وأكد للعالم أن سوريا دونها الرقاب والقلب والدم …أسسوا جمهورية الفقه والتفسير حين اعتلى العالم الجليل (البوطي) محراب المسجد …وكانت دروسه تؤكد للدنيا أن الإسلام ..انتشر من فوق أكتاف الشام .
أبكي مثل ذئب جريح كسير طريد يبحث عن منفى وموت ….ألم يستفز هذا المنظر العرب ؟ وهل بقي في الدنيا عرب …نحن الخدم يا ابنتي نحن خدم قانون (قيصر) , نحن خدم كل دبابة وكل بندقية وكل مدفع دك أرض الشام ….نحن أسرى العجز الكلي , ونحن المرتهنون للأنفس الأمارة بالسوء …وها أناانشد على خجل من نزار قباني ..انشد على خجل منه :
أتراها تحبني ميسـون..؟أم توهمت والنساء ظنون
يا ابنـة العم
… والهوى أمويٌ كيف أخفي الهوى وكيف أبين
هل مرايا دمشق تعرف وجهي من جديد أم غيرتني السنيـن؟
يا زماناً في الصالحية سـمحاًأين مني الغوى وأين الفتون؟
يا سريري.. ويا شراشف أمي يا عصافير.. يا شذا، يا غصون
يا زورايب حارتي.. خبئني بين جفنيك فالزمان ضنين
واعذريني إن بدوت حزيناًإن وجه المحب وجه حزين
ها هي الشام بعد فرقة دهرأنهر سبعـة ..وحـور عين
آه يا شام.. كيف أشرح ما بي وأنا فيـك دائمـاً مسكون
يا دمشق التي تفشى شذاهاتحت جلدي كأنه الزيزفون
قادم من مدائن الريح وحـدي فاحتضني ،كالطفل، يا قاسيون
أهي مجنونة بشوقي إليها…هذه الشام، أم أنا المجنون؟
إن تخلت كل المقادير عني فبعيـني حبيبتي أستعيـن
جاء تشرين يا حبيبة عمري أحسن وقت للهوى تشرين
ولنا موعد على جبل الشيخ كم الثلج دافئ.. وحنـون
سنوات سبع من الحزن مرت مات فيها الصفصاف والزيتون
شام.. يا شام.. يا أميرة حبي كيف ينسى غرامـه المجنون؟
شمس غرناطة أطلت علينابعد يأس وزغردت ميسلون
جاء تشرين.. إن وجهك أحلى بكثير… ما سـره تشـرين ؟
إن أرض الجولان تشبه عينيك فماءٌ يجري.. ولـوز.. وتيـن
مزقي يا دمشق خارطة الذل وقولي للـدهر كن فيـكون
استردت أيامها بك بدرٌواستعادت شبابها حطين
كتب الله أن تكوني دمشقاً بك يبدا وينتهي التكويـن
هزم الروم بعد سبع عجاف وتعافى وجداننا المـطعـون
اسحبي الذيل يا قنيطرة المجدوكحل جفنيك يـا حرمون
علمينا فقه العروبـة يا شام فأنت البيـان والتبيـيـن
وطني، يا قصيدة النار والوردتغنـت بما صنعت القـرون
إركبي الشمس يا دمشق حصاناًولك الله … حـافظ و أميـن
عبدالهادي راجي