بقلم الأديب والنّاقد: عباس داخل حسن/ فنلندا
“إنّ من يفتح قلبه للمحبّة يستطيع أنْ يسمع بقلبه، وأنْ يحفظ في ذاكرته”: القدّيس أوغسطين
في البدء لا بدّ من الاعتراف بأنّني قد بلغتُ غاية مرادي من إلحاحي المستمرّ على د. سناء الشّعلان في مناسبات عديدة بأنْ تكتب عن رحلاتها المتعدّدة، وهي قد بلغت العشرات بوصفها أستاذ زائر وضيف شرف في الكثير من الجامعات العربيّة والعالميّة، والمؤتمرات العربيّة والدّوليّة والفعاليّات الثّقافيّة والفكريّة المتعدّدة، أو عبر أسفارها المتعدّدة الأغراض والمناسبات الثّقافية التي تُدعى إليها، مثل إشهار أعمالها الأدبيّة، أو فوزها بجوائز إبداعيّة ونقديّة وبحثيّة، أو ترجمة بعض أعمالها الأدبيّة، أو حضور مناقشة رسائل جامعيّة عن إعمالها؛ إذ لم تحظ أديبة عربيّة معاصرة بما حظيتْ به الدّكتورة سناء الشّعلان من اهتمام بحثيّ ونقديّ بأعمالها الإبداعيّة التي كانتْ موضوعاً لدراسة عدد من الرّسائل الجامعية “الماستر/ والدكتوراة”؛ إذ أجزم أنّ لها حصة الأسد بين الكتّاب العرب المعاصرين في هذا الشّأن، وما زال هناك الكثير من الدّراسات قيد الإنجاز في حوزة طلبة الدّراسات العليا عن أعمالها في ماليزيا والهند وباكستان وأوروبا وأمريكا والجامعات العربيّة.
وفي كلّ مرة تكتب إضاءات مقتضبة، أو تنشر صوراً توثيقيّة، أو مقاطع You Tube”” لأسفارها التي تثير فضولي، وتجعلني ألحّ عليها من جديد بأنّ تشرع في كتابة أخبار رحلاتها وأسفارها وتطوافها في الأرض؛ وجوهر إلحاحي هو إيماني العميق والمخلص بأنّ النّصوص هي أقوى المنجزات التي تبقى مع الأركولوجيا؛ فلولا رقم الطّين والكتابة على الحجر قبل اختراع الورق والطّباعة، لما حُفظتْ حياة الحضارات القديمة الأولى وإنجازاتها، لتكون بين أيدينا اليوم، وعلى الرّغم من رغم ذلك ضاع الكثير منها؛ ممّا أحدث فراغات قاهرة، وبقيت حلقات مفقودة تنكأ توقنا للألغاز المؤرّقة لوجود الإنسان الأزليّ، وتثير هباب أسئلتنا الوجوديّة عن ذواتنا، وعن الآخر وتاريخ المجتمعات الأولى التي بنتْ أعظم الحضارات الإنسانيّة التي لم نفكّ أسرارها جميعاً.
إنّ أوّل رحلة مدوّنة في التّاريخ هي رحلة كلكامش التي تُعدّ حجر الأساس العظيم للملحمة الإنسانيّة الأولى؛ فهي رحلة البحث عن عشبة الخلود ومعنى الإنسان والموت، ومن بعد توالت رحلات الأنبياء، كما تروي قصص الأنبياء والكتب السّماويّة.
إنّ طبيعة التّرحال ذات طبيعة بشريّة سببيّة في بحث الإنسان عن مبتغاه ووجهته التي يرومها؛ لتحقيق غرضه الذي يريد الظّفر به، ويغامر من أجله متحمّلاً عناء السّفر ومخاطر المغامرات المميتة أحياناً.
“هو الذي رأى كلّ شيء، فغني بذكره يا بلادي
وهو الذي عرف الأشياء جميعها، وأفاد من عبرها
وهو الحكيم العارف بكلّ شيء
لقد أبصر الأسرار، وعرف الخفايا المكتومة
وجاء بأنباء أزمان ما قبل الطّوفان
لقد أوغل في الأسفار البعيدة حتى حلّ به الضّنى والتّعب
فنقش في نصب من الحجر كلّ ماعاناه وماخبره” (1)
لقد آمنتُ بأنّ ما تنشره الرّحالة سناء الشّعلان من إضاءات ومقتطفات مقتضبة عبر الوسائل التّواصليّة المتاحة لنا ينطوي على الكثير من الاكتشافات والمشاهدات القيمة ثقافيّاً ومعرفيّاً، لكنّها مبتورة، وأنّ ما وراء الأكمة ما ورائها من سيل جارف من المغامرات والمواقف والمرئيّات التي تكتنزتها الشّعلان في ذاكرتها وإرشيفها من خلال لقاءاتها ومشاهدتها الحيّة لأماكن لطالما شغلتْ خيالنا، وقرأنا عنها، وشدّ الرّحالة أمتعتهم إليها قديماً وحديثاً.
وفي كلّ مرّة ألحّ عليها للكتابة عن رحلاتها، يأتي جوابها المحبط لي: “لا أحبّ أدب الرّحلات؛ إذ لم يأتِ بجديد، كما أنّني لا أحبّ كتابة المذكّرات أو السّير الذّاتيّة”.
وأخيراً ذات مساء مفاجئ لي وجدتُ على بريدي الالكترونيّ رسالة من سناء الشّعلان ودعوة منها لي لقراءة فصل من “رحلة أمّ بطبوطة تُصلّي في جبال الهيمالايا”، ثم توالت النّصوص، وكلّ فصل يحمل غواياته الإبداعيّة والفنّيّة والجماليّة بأسلوب متأنّق في غاية التّرف، وفيه من الإمتاع ما فيه ممّا يستحقّ التّقريظ دون أدنى شكّ، ويجبرني على إعادة قراءته مرّات عديدة، وبقيتُ قابضاً على جمرة إلحاحي المستميت عليها بتزويدي بفصول أخرى من شدّة إعجابي بها، وشعرتُ بصرخة بداخلي تقول للشّعلان “ابقي على كرهكِ لأدب الرّحلات، واكملي كتابة الرّحلة”، وكتبتُ لها نصّ هذه الصّرخة، وأرسلتها لها على البريد الالكترونيّ، واستمر صيب الفصول يتوالى على بريدي الالكترونيّ من طرف الشّعلان.
بوصفي قارئاً وناقداً متابعاً للأديبة الدكتورة سناء الشّعلان، وصديقاً لها يقاسمها الكثير من الأفكار والآراء المشتركة، فلا يسعني إلاّ أنّ أهتبل هذه المناسبة لتقديم الشّكر والعرفان لها؛ لأنّها منحتني فرصة قراءة باكورة رحلاتها المدوّنة “أمّ بطبوطة تصلّي في جبال الهيمالايا” ولاستجابتها للكتابة عن رحلاتها؛ ليجد فيها القارئ متعة القراءة ولذّة موصولة؛ لما فيها من تنوّع واختلاف ومرآة صادقة في النّقل وتخطّي للكثير مما هو سائد ومألوف في أدب الرّحلات الذي خصّ الرّجال دون النّساء في عالمنا العربيّ إلاّ من استثناءات بعدد أصابع اليد الواحدة جاءت أغلبها على شكل مذكّرات أو سيرذاتيّة خالية من روح المغامرة للرّحالة بوصفهم مستكشفين.
تشكّل فكرة الارتحال مادّة أساسيّة للسّرد الرّحليّ من خلال البحث والاكتشاف من خلال دالة أساسيّة، ألاّ وهي المكان أو الأماكن، وما تحويه من مشاهدات يرويها الرّحالة لغيره بصفته صاحب النّصّ، وهي التي ينهض النّص عليها، وبتنويعات سرديّة تفرضها الأفكار ومقتضياتها ومهارة السّارد.
قلبتْ سناء الشّعلان معادلة اللاّحبّ، وهزمتْ كرهها لأدب الرّحلة، وأبدعت أروع سلسلة من رحلاتها المختلفة الأغراض والمتنوّعة، وهي تبحث بروح الرّحال العاشق عن عشبة السّعادة ومتعة المعرفة والعدالة لا الخلود.
ويتعذر عليّ الكتابة عن الرّحلات مجتمعة؛ فهي في حاجة إلى جهد جهيد وبحث طويل، ولن نفيها حقّها بعجالة وإيجاز، وتحتاج إلى دراسات بأكثر من مستوى؛ فهي سرديّة وقصص أدبيّة غاية في الرّوعة، وتحمل خصائص عديدة ومتنوّعة من المعارف التّاريخيّة والعلميّة التي تحتاج من القارئ إلى مقدار كبير من التّبصّر والبصيرة النّقديّة للحكم عليها؛ لهذا سأكتفي بالكتابة عن رحلة “أمّ بطبوطة تصلّي في جبال الهيمالايا” تاركاً ما تبقى للمستقبل والآخرين لدراستها وتقيمها، ولكلّ مجتهد نصيب.