عامر درادكة
يصْعُبُ أنْ يُنتِجَ الأشخاصُ خطاباتهم من لحظةِ الصفْر المَعرفيّ. اذ تصْدرُ الخطابات عَنْ تفاعلٍ مَرنٍ بين أطرافٍ مركزيّةٍ متعدِّدةٍ، و هي:
أولاً، معطيات الوقائع ذاتها و معطيات البيئةِ الأجتماعيةِ و الثقافيّةِ للوقائعِ. و تشمل هذه المعطيات زمان ومكان الوقائع، و الفاعلين بها، و سياق الأحداث الذي جرت به، و القيم و المفاهيم السائدة. تتباين قدرات الأشخاصَ على جمعِ هذه المعطيات، و يتباين أيضاً فهمهُم لها و طريقة استخلاص الأستنتاجات منها. و قد تتلاعبُ المصادرُ بالمعطيات ذاتها بحيث توفّر للنّاسِ معطيات و تُخفي أُخرى، و قد تتعمّدُ هذه المصادرُ سرْدَ كلّ المعطيات المطلوبة للوقائعِ و لكن بطريقةٍ موجَّهَةٍ لخِدمةِ أهدافٍ محدّدةٍ. هذا يعني أنّ معطيات الوقائع و معطيات بيئتِها الثقافيّةِ المُتاحةِ مسؤولةٌ جزئياً عن التباينِ الظّاهِرِ في خطابات النّاس حول ذات القضيّة. و هو موضوعٌ لا يدخل ضمن نطاق اهتمام هذا المقال.
ثانياً، المنظومةُ المعرفيّةُ المُستقرّةُ في ذهنِ منْتِجِ الخِطابِ. و هذهِ تشمَلُ شبكةَ المعارف و المفاهيم والخِبرات و القيم و آليات الربطِ بحيث تشكّلُ كلّها معاً مُنطلقات الشّخصِ المعرفيّة أو مرجِعيّتهِ المعرفيّة التي يستَنِد اليها في قراءة العالمِ. يبني الشخصُ منظومَتَه عبر تفاعلٍ ديناميكيّ متواصِلٍ واعٍ مع الواقع المُعَاش الى أنْ تستقَرَّ مع مرور الزّمنِ هُويّةٌ شخصِيّةٌ معرفيّةٌ في ذهنِه؛ تصيْرُ منظوره لرؤيةِ العالم. أي يعيْدُ منتِجُ الخِطابِ بحسْبِ هذا الوَصفِ صياغةَ كلِّ معطيات الوقائع و سياقها داخل ذهنِهِ وفقَ منطلقاتِهِ المعرفيّة. فلا يكون بذلكَ فقط متلقياً بل منتِجاً يعيْدُ انتاجَ الوقائعِ بتأثيرٍ مباشرٍ منْ نقاطِ الثباتِ الرّاسِخَةِ في ذهنِهِ. و بما أنّ تجاربَ الأشخاصِ و قدراتهم متباينة، تتباين تبعاً لذلكَ منطلقاتهم المعرفيّة التي يُطِلّونَ منها على العالم ما يجعلها اذن ذات مسؤوليةٍ مباشرةٍ عن تباين الخطابات بين النّاسِ حول قضيّةٍ معينةٍ. و نظراً لأهميّةِ هذا الجانبِ، سعى هذا المقال الى وصْفِ المُنْطلقاتِ المعرفيّةِ التي تقفُ وراء الخطابات العربيّة العامّة لعلّهُ يُسهِمُ في فَهمٍ أعمَقٍ لها.
ثالثاً، المعرفة اللغوية التي يختزِنُها مُنتجُ الخِطابِ في ذهنِهِ كجزءٍ مميّزٍ من منظومتِه المعرفيّة. و هذه تضمُّ المعرفةَ بالألفاظَ اللغويةِ و دلالاتِها و حمُولاتها النفسيّة و الأجتماعيّة و الفروقِ الدّقيقةِ بينها و طرائِق ضمِّها معاً في تراكيبٍ أكبرٍ بحيث تحقّقُ مقصوداً خاصّاً. تؤدّي المعرفةُ اللغويةُ دوراً وسيطاً بين معطيات الواقع كما هي في ذهنِ الشّخصِ و بين منظومتِةِ المعرفيّةِ الذهنيّةِ.
و بهذا، تكون اللغة وسيلةً ضروريّةً لتكييفِ الواقعِ العيانيّ مع منطلقات الشخص المعرفيّة. انّ الأستعمال اللغويّ في السياقاتِ المُختلفةِ استعمالٌ قصْديٌّ. و تتجسّدُ هذه القصديّةُ في انتِخابِ المُتكلِّمِ في حِواراتِهِ كلمات و عبارات و جمل بعينها كَيْ تقدِّمَ حقائقَ معيّنةً و تُمَرِّر تحايُلات على الحقائقِ المُناقِضة لموقِفِ المُتكلِّمِ بحيث يُظْهِرُ موقِفَه منطقيّاً مُقنِعاً. و بذا، تشكِّلُ هذه الأستعمالات الخِطابيّةِ ضمن سياق النّقاشِ مادّةً مناسبَةً يمكنُ الأعتماد عليها في التحليلِ حتّى نَنْفَذُ منها الى المُنطلقاتِ المُؤَسِّسَة للتّفكيّرِ المجتمعيّ.
تتباين استجابات النّاس الخطابيّة تجاه الأحداث السّاخنة المختلفة التي تجري في السّاحة العربيّة. و قد عبّرت عن هذا التباين في أوضَحِ صورِهِ مئاتُ النقاشات و الجدالات الكَلاميّة العامّة التي جرَت مؤخراً حول الموقف من سقوط نظام بشار الأسد في سوريا و مآلات هذا الحَدث المِفصَلي. و قد أثارَ التباينُ الحادُّ الفضولَ للبَحثِ عنْ ما ورائيّاتِهِ. اذ قد يبدو هذا التباين في ظّاهِر الأمرِ مجردَ مُمَاحكاتٍ خِطابيّةٍ لكنّه في العمْق يضمِرُ منطلقات عقليّة معرفيّة متعدّدة؛ يعتمِدُ النّاس عليها في قراءَتِهم للأحداثِ التي يتفاعلون معها. و قد قادَ تحْليِلُ مضمُونِ الخِطاباتِ العربيّةِ حولَ سقوطِ النِّظامِ السوري الى رَصْدِ خَمْسَةِ منطلقاتٍ معرفيّةٍ توَجِّهُ كُلَّ تلكِ الخِطاباتِ، و هي:
(1) المُنطَلَقُ الأنتِهازِيُّ: يتَكَثّفُ تَركِيزُ هذا المُنطَلَق حولَ اللّذةِ الحِسّيّةِ، و المَكْسَبِ الشّخْصِيِّ، الأنانيّةِ المُفرِطَةِ، المُتَاجَرَةِ بالمَواقِفِ، و التَّقلُّبُ السّريْعُ في الأصْطِفافَاتِ. يحُثُّ هذا المُنطَلَقُ صَاحِبَهُ الى التَّرويِجِ لِخِدمَةِ مَنْ يَدفَعُ لهُ أكثَر أو يُقدِّمُ لَه امتِيازات أفضَل. يسْتَلِمُ روشِتَّةَ المَوقِفَ بيَدٍ و كيْسَ المَالِ بالأُخْرى. ثمّ يشْرَعُ بعدَها بتَوظِيْفِ كُلَّ أَدَواتِهِ بهَدَفِ تزْيِين ذاكَ المَوقِفِ المُشْتَرَى في أذهَانِ النّاسِ. اذ يُشوِّهُ المَوضوعيّةَ عَمْداً، و يُحَرِّفُ الحَقيْقَةَ قَصْدَاً، و يطْمِسُ الرّأيَ الأفضَلَ في سَبيلِ المَالِ أو المَنصِب. و لا يَجِدُ حرَجاً أبداً في ‘التّحَوُّلِ المُفَاجِىءِ’ الى موقِفٍ مُضادّ أنْ شَعَرَ بضَعْفِ سيِّدِهِ الأوّلِ أو حَصَلَ على مالاٍ أكثرٍ و منْصِبٍ أرفَعٍ من سيّدٍ جديدٍ. فَفي المَوقِفِ مِنْ الأحدَاثِ المُتَسَارِعَةِ في المَنطِقَةِ، قَدْ يُنْتِجُ صَاحِبُ المُنْطَلَقِ الأنتِهازيِّ خِطاباً وطنيّاً أو طائِفيّاً أو صُهيُونيّاً أو عَلمَانيّاً أو شعبَويّاً أو حُقوقيِّاً أنسانيّاً أو غيْرَ ذَلِكَ. بالمُحَصّلَةِ، لا يُمْكِنُ الأعتِماد على هذا المُنْطَلَقِ في فَهْمِ الوَاقِعِ، و لكِنْ يُمكِنُ أنْ نفَهْمَ حَقيْقَةَ خِطابِهِ أنْ عَرَفْنَا سيِّدَهُ.
(2) المُنْطَلَقُ المُنفَعِلُ: يدورُ هذا المُنطَلَقُ حولَ مفاهِيْمِ الأملِ و التّفاؤلِ، والأرادَةِ، و الفَرَحِ اللّحظِي، و أيضَاً الثّأرِ و الأنتِقامِ. تتَمَثّلُ أبْرَزُ سِماتِ هذا المُنْطَلقِ باقتِطَاع الحَدثِ عن فضاءِهِ العامِ، و التحجُّرُ عنْدَ لحْظةٍ جزئيّةٍ مِن كامِلِ المَشهدِ. اذ يمدِّدُ اللحَظَةَ المَرغُوبَةِ على طوْلِ المُسْتَقبلِ البَعيْدِ، و يضْجَرُ مِنْ تذْكِيِرِهِ بدينَامِيْكيّةِ الحَياةِ.
يرسُمُ الوَاقِعَ في ذِهنِه ثمَّ يسْكُبُهُ سَكبَاً على المَشْهَدَ العَيَانيَّ، و يُمارِسُ التَّحَايُلَ كُلّما ظَهَرتْ لَه مُعطَيات جديدة لا تُنَاسِبُه عن حقيْقَةِ الوَاقِعِ. قَدْ يكونُ هَذا المُنْطَلقُ هو الأبرَزُ و الأكثَرُ تَجَلّياً في توليْدِ و تَجْسيْدِ الخِطاباتِ العربيّةِ حوْل حادِثَةِ سقُوطِ نِظامِ الأسَدِ في سوريا. فقَدْ عَمَّ الفَرَحُ الجَارِفُ بيْن السُّورييْن والعَربِ بسقوطِ الأَسدِ بعدَ عقودٍ مِن الحُكمِ بقبْضَةٍ حَديْديِّةٍ في سوريا. شكّلَ الأستِبدادُ و الأعتِقالُ العَشوائيُّ و التعذِيبُ الوحْشيُّ و القَتلُ و التّهجيْرُ أسباباً -مُحقِّةً- لهذا الفَرحِ. و لكِنَّهُ تحوّلَ عنْدَ الكَثيْريْن الى ‘فَرحٍ طفوليّ’ ينغمِسُ باللّحظَةِ و لا يُلقِي بالاً لتعقيْدِ المَشهَدِ في سوريا و صعُوبَةِ المَرحَلَةِ.
لقْد ركَّزَ الفَرِحُونَ فقط على لذّةِ سقوطِ الأسدِ و عذاباتِ سجْنِ صيدنايا. لكنّهُم تَعَامَوا عن وجودِ فَصَائلٍ مُسلّحَةٍ مُتَنَاحِرةٍ على أرضِ سوريا يَصْعُبُ ضَبْطُها و لها تارِيْخٌ في الأجرَامِ و القَمْعِ. و لمْ يتَطَرّقُوا للشُّكُوكِ حولَ هيْئةِ تحرِيِرِ الشّامِ، و تحَوّل قائِدُها من شخْصِيّةِ أبو محمد الجُولاني الى شخْصِيّةِ أحمد الشّرعِ. و نَسُوا أطماعَ دولٍ اقليميّةٍ و دوليّةٍ قويّةٍ -لا تُخفِيْها- في سوريا. و أغمَضُوا أعيُنَهُم عن ضَرْبِ كيانِ الأحتِلالِ مقدّراتِ سوريا و استِباحَتِهِ للأرَاضِي السوريّةِ، و صارُوا يتَنَاولونَ هذا العُدوْان السّافِرِ بدعَواتٍ ساذِجَةٍ مثل اعتبارِ العُدوانِ مجرّد “تجَاوزَات”، أو القوْلِ بأنّ الأسدَ قَدْ زَوَّدَ الصهاينةَ بأماكِنِ الأسلِحَةِ السوريّةِ، أو القَولِ لقدْ أُستُعْمِلَ هذا السّلاح ضدّ السورييْن فلا نُريْدُهُ و لا يَهُمنَا تدمِيْر الصهاينةِ لهُ. و تغَافَلَ الفَرِحُونَ أيضاً عنْ اقتصادٍ مدمّرٍ و توجّهاتٍ مُجتَمَعِيّةٍ سورِيّةٍ مُتبايِنَةٍ و طرِيْقٍ مستقبليٍّ مجْهولٍ. و تَجَاهَلوا قَطْعَ الصَهايِنَة خَطَّ اسْنَادِ المُقاوَمةِ منْ سوريا الى غزّةِ التي تُبَادُوا منذ أكثَر مِنْ عامٍ. و غَضُّوا الطّرْفَ عَنْ دَعمِ محْوَرِ المُقاومةِ في غزّة و توجِيْهِ ضَرَبَاتٍ حقِيْقِيّةٍ أوْجَعَتْ قواتِ الأحتِلالِ؛ بلْ اعتَبَروْها بِسَذاجَةٍ مُجرّدَ مَسرَحِيّة أو صَوارِيِخ فَارِغَة. و نَسُوا ما تَعّرَضَ لهُ محْورُ المُقاوَمةِ لقاءَ مَوقِفِهِ مِنْ ضَرَبَاتٍ قاسِيِةٍ سَدَّدَها لَه جَيْشُِ الأحتِلالِ. قدْ تحَجّروا عند التلذُذِ باسْقاطِ الأسدِ، و تعامَلوا مع هذا الحَدثِ الهَامِّ على أنّه هَدف نهائيّ لا بدايةِ الأحداثِ. بل صاروا يتّهِمونَ مَنْ يدعُوهُمْ لحِمايَةِ المُنْجَزِ أنهُ مِنْ أنصَارِ الأسَدِ المُجْرمِ، و صارَ خِطابُهم الرئيْسِيِّ يُردِّدُ: دَعُوا السوريين يعيْشونَ الفَرَح و لا تُفسِدوا عليْهم فرحَتَهُم بتخْويْفِهم من القادِم؛ و كأنّ الأنتِباه للواقِع يُناقِضُ الفَرَحَ بما تحقّقَ. و قولِهم أيضاً: المُهم أنْ رَحلَ الأسدُ، فليَحْكُم مَنْ يَحكُم، سيكون حتماً أفضل من الأسدِ؛ و كأنّ الأمور تأتي بالتمنّي و الأٓمال. منْ حَقِّ المَقهُوْرِ أنْ يحتَفلَ بأزاحَةِ قاهِرِهِ، و لكِنْ يتوجّبُ عليهِ أن يحمِي مُنجزَهُ لا أن ينتَقِلَ من حالةِ الأستعبادِ الى حالة تحسِينِ ظروفِ الأستِعبادِ.
(3) المُنْطَلَقُ الطّائِفيُّ: يسْتَنِدُ هذا المُنْطَلَقُ على رؤيَةٍ دينيّةٍ أو عِرقيّةٍ أو قَوميّةٍ أو مَناطِقيّةٍ ضيّقَةٍ. اذ يُعطِي الأولوِيّةَ في قرَاءَةِ الوَاقِعِ للوَلاءَاتٍ الشَخْصِيّةٍ الأَدْنى على حِسَابِ الوَلاءَاتٍ المُجتَمَعِيّةِ العُليَا. يمْتَازُ بالحِدِّيةِ في الخِطابِ، و يُصِرُّ على مَوقِفِهِ بصُورَةٍ دُغمَائِيّةٍ لا متَبَصِّرَةٍ، و يَتَنكَّرُ لكُلِّ حقِيقةٍ تُخَالِفُهُ بل و يَتَحَايَلُ عليْها. بَرَزَتْ خِطاباتٌ عربيّةٌ مُتعدِّدةٌ على أثْرِ سقوطِ النّظامِ السوريّ يُحَرِّكُها المُنْطَلَقُ الطّائِفيُّ. فَقَد نَادَى بعْضُ مَنْ فَرِحَ لسُقوْطِ النّظامِ في سوريا ‘بعَودَةِ الأمويّةِ’ التي تَرمِزُ الى الحُكْمِ العَربيِّ في الشّامِ باعْتِبارِهِ مُضَادّ للحُكْمِ الفَارِسيّ الذي سَانَدَ النّظامَ السّوريّ و توسّعَتْ نشَاطَاتُهُ في سوريا. و ظَهَرَتْ خِطاباتٌ تَحْتَفِي بانْتِصَارِ المَذهَبِ السُّني و عَودَة سوريا للسُّنْةِ بعدَ سقوطِ نظامِ الأسَدِ العَلويّ النُصِيْريّ، و رَحِيْلِ القُوّاتِ الشيْعِيّةِ الأيرانيّةِ من سوريا. يَعمَلُ هذا المُنطَلَقُ على الثُنائِيّاتِ “معي أو ضِدّي” على نَحو: عربيٌّ- فارسيٌّ، سُنّيٌّ- شيعيٌّ، شرقِيٌّ- غربيٌّ، شَمَاليٌّ – جنوبيٌّ…الخ. يشْتَعِلُ الكُرْهُ و الغَضَبُ و الرّغبَة بالأنتِقامِ بِداخِلِهِ لدَرَجَةٍ تمْنَعُهُ مِنَ التّفكِيْرِ في حقيقَةِ صِراعِهِ مع خَصمِهِ الطّائفيّ أو التّفكِيْرِ في تَقرِيبِ وُجهَاتِ النّظَرِ على قاعِدَةٍ مُشتَركَةٍ و توجِيهِ ضَربَةٍ للمُستَفيْدِ مِن التأجِيجِ الطّائفيّ. و بذا، يتَعَامَلُ هذا المُنْطلقُ في خِطاباتِه مع ضِدِّهِ على أساسٍ صِفرِيّ-رابِح أو خاسِر؛ فلا يقبَلُ الحِوارَ ألا كَذِباً و لا يَرْضَى بالحُلُولِ الوُسطَى ألا مُرغَمَاً.
(4) المُنْطَلَقُ العَقَائديُّ: ينْتَسِبُ هذا المُنْطَلَقُ الى مَنْظُورٍ آيديُولوجيّ محدَّدٍ يفَسِّرُ مِنْ خِلالِهِ العَالمَ و ظَواهِرَه المُختَلِفة. ليْسَ بالضّرورَةِ أنْ يكُونَ تحليْلُ هذا المَنْظورِ غيْر متَّسِقٍ مَنْطِقيّاً، وَ لكِنَّ المُشكِلَةُ أنّهُ يُعَدُّ في نَظَرِ المؤمِنيْنَ بِهِ المُنظورَ الوحيْدَ القَادِر على تفسيْرِ الوقائِعِ بدِقّةٍ، بينَمَا يُنْكِرُ القدرةَ التحليليِّةَ التفسيِّريةَ للرؤى الفِكْريّةِ الأُخرى. و بذا، يتحَوّلُ المَنظُورُ الفِكرِيُّ الى مَنظورٍ آيدولوجيّ دوغمائِيّ تُطَوَّعُ مِن خِلالِهِ و لأجْلِهِ الوقائِعَ و معطَياتِها. يؤمِنُ هذا المُنْطَلَقُ بأنَّ النّظامَ السّوريّ حقّاً نِظامٌ مقاوِمٌ للصُهيونيّةِ و الأمرَكَةِ لأنّهُ يتَبَنّى خِطابَ المُقاوَمَةِ، و يفتَحُ بِلادَهُ للفصَائلِ الفلسطينيّةِ و حزب الله و ايران و روسيا لمُواجَهَةِ مشَاريعِ اميريكا في المنْطِقةِ. و لذَلِكَ، تُفسِّرُ الخِطاباتُ العَقائِديِّةِ ما يَجْرِي في سوريا بالمُؤامَرةِ الأمريكيّةِ الصُهيُونيّةِ التُركيَّةِ على الدّولةِ السوريّةِ تحْتَ سِتَارِ حقُوقِ الأنسَانِ. اذ تُخْفي هذِه المُؤامَرة حسْبَ التّفسِيْرِ العَقائِديِّ صِراعَاً طاحِنَاً بينَ محوَرِ المُقاوَمَةِ و مَحوَرِ المُمانَعَةِ، الأشتِراكيّةِ و الرأسمَاليّةِ، القُطبيّةِ المُتعَدّدَةِ و المَركَزيّةِ الغَربيّةِ. و يَكْمُنُ الهَدَفُ منْ وراءِ اسْقاطِ الأسَدِ في: تحطِيْمِ سوريا و تَفتِيْتِها، و طَرْدِ حزب الله و ايران من سوريا تمهِيْداً للقَضَاءِ على ايران، و خَنْقِ المُقاومَةِ الفِلسْطِينيّةِ، و أضعَافِ مصَادِرِ التّهدِيْدِ لكَيانِ الأحتِلالِ و المَصَالحِ الأمريكيّةِ، و تحسِيْنِ علاقاتِ سوريا مع كيَانِ الأحتلالِ، و نقْلِ سوريا من محْوَرِ روسيا ايران الى مِحوَرِ اميريكا، و فَتْحِ سوريا لمَشَارِيعِ الخَصْخَصَةِ و الشّرِكاتِ الرأسمَاليّةِ و البَنك الدوليّ. يمْتَازُ هذا التّفسِيْرُ العَقائِديّ بالتّرابُطِ المَنطِقِيِّ في اسْتِيعابِ كامَلِ المَشْهَدِ. اذ لا تُخْفِي القُوى الأقليميّةِ و الدوليّةِ كلّ هذهِ الأطمَاع في سوريا كَمَا يُصوِّرُهَا الخِطابُ العَقائِديّ. و لكِنّ المُعضِلَة التي يقَعُ بها هذا الخِطابُ هي أنّه يَتّحايَلُ على معطياتٍ واقعيّةٍ لها وَجَاهَتُهَا، أهمّها: يُقَدِّمُ الأسدُ أولويّةَ بَقاءِهِ رئيْساً لسوريا على أيّ اعتِبارٍ أخرٍ بِما فيْها المُقاوَمَةِ، يَقُومُ نِظامُ الأسَدِ بِبعضِ المُمَارَسَاتِ ذات النّزعَةِ الطّائفيّةِ في سوريا، يُمَارِسُ نظامُ الأسَدِ الأستِبْدادَ بأبْشَعِ صُورِهِ، ارتِكَابُ ايران و أذرُعها في العِراقِ و سوريا جَرائِمَ بَشِعَةٍ، و يَطْمَعُ المُخَطّطُ الأيراني الى تَصْديِرِ الثّوْرةِ و ابتِلاعِ المَنطِقَةِ، و لا تُقدِّمُ روسيا و الصّين الدّعمَ الكَافِي للمُقاومَة الفلسطينيّةِ مقارَنَةً بمَا تُقَدِّمُهُ اميريكا و القوى الأروبيّةِ لكيانِ الأحتلالِ. يُديْرُ العقَائِديُّ ظَهْرَهُ في الغالِبِ لكُلِّ هذهِ المُعطياتِ و يُنكِرُها تمَاماً أو يُبَرِّرُها أو يُقَلِّلُ مِنْ أثَرِهَا مع أنَّ شِدَّةَ القَمْعِ قدْ يَدْفَعُ المَقمُوعَ واقِعيّاً للأحْتِمَاءِ بالأجنَبيّ للخَلاصِ مِنَ البَطشِ.
(5) المُنْطَلَقُ الأستْراتِيْجِيُّ الرَّاشِدُ: يُزَاوِجُ هذا المُنطَلَقُ بينَ الحِسَابِ العَقليِّ و الأرادَةِ المُتَوقِّدَةِ، الآني و الدّائِمِ، الثّابِتِ و المُتَحوِّلِ، التّارِيخِيّ و الطّارِىءِ. يُخَطِّطُ لخُطُواتِهِ بعَقليّةِ الجَبانِ و يُنفِّذُ بعقليِّةِ المُتَهوِّرِ. يتَفرّدُ هذا المُنْطَلَقِ بِسِمَةٍ مميّزِةٍ، و هي: البَحْثُ الأَميْنِ عن الحَقِيْقَةِ. و لِذلِكَ، يهتَمُّ بفَضَاءِ الوقَائِعِ و أدَقِّ تفاصِيْلِها، يعيْشُ حالةَ تفكُّرٍ دائمٍ في كلِّ لحظَةٍ يَعبُرُها، و يُطِلُّ مِنَ الحَدثِ المُفرَدِ على الأُفقِ القَادمِ. يعيْشُ لحْظةَ النّجاحِ دوْنَ أن تُسْكِرَهُ لذَّتُها؛ فَيَنْطَلقُ منْها الى الخُطواتِ التّاليةِ. يقرأُ الواقعَ بِعَيْنِ الحِيَادِ قَدرَ المُسْتَطَاعِ، يُصِيْغُ استِنتَاجاتهُ بشكْلٍ منْهَجيٍّ، ثمّ يَبْني مَوقِفَهُ في ضوْئِها. يُواصِلُ متابعةَ المُسْتَجَدّاتِ، و يُعيْدُ تقيْيمَ أفكَارِهِ، و لا يَتَرَدّدُ في تَعدِيْلِ منَاهِجهِ و أسالِيبِهِ أنْ اكتَشَفَ خطَاءَها في تحْصِيْلِ الحَقِيْقَةِ. يُدْرِكُ هذا المُنْطَلَقُ معْطَيَات الواقِعِ في سوريا و المَنْطِقَةِ. فَمِنْ جِهَةٍ أُوْلى، يُعَانِي الشّعْبُ السّوريّ مِنْ اسْتِبْدادِ نِظامِ الأسَدِ عبْرَ عقوْدٍ، و يَتَوقُ الى الحَيَاةِ بِكَرامَةٍ. و هذا الجَانِبُ على قَدْرٍ عالٍ مِنَ الأهميّةِ لا يَجُوزُ التّغافُلُ عَنْهُ تَحتَ أيّ تَسْوِيْغَاتٍ. و مِنْ جِهَةٍ ثانيِّةٍ، تَتعَرّضُ سوريا من وَراءِ اسقَاطِ نِظامِها الحَاكِمِ لِهَجْمَةٍ شَرِسَةٍ لأجْلِ أَهْدافٍ خاصّةٍ ليْسَ الشّعبُ السّوريُّ مِنْ أولويّاتِها. تهدِفُ أميريكَا الى تَقوِيضِ القُوّةِ الروسيّةِ و الأيرانيّةِ في المَنطِقةِ، و تأميِنِ مصَالِحها و أمْنِ كيَانِ الأحتِلالِ في سوريا. و يَهدِفُ كيانُ الأحتِلالِ الى طَردِ ايران منْ سوريا، و منْعِ امدَادَ حزب بالله بالسّلاحِ عبر سوريا،و اضعَافِ محوَرِ المقاوَمةِ لأضعَافِ المُقاومَةِ الفِلسطِنيّة، و تَطْويْعِ سوريا للتَطبِيْعِ معَهُ. و تَسْعى تُركيا الى القَضَاءِ على الخَطَرِ الكُرديّ، و أعادَةِ اللاجِئين السّورييْن لِبلدِهِم، و فَتْح سوريا للمُنتَجَاتِ التُّركيةِ. و مِنْ جِهَةٍ ثالِثَةٍ، تَخُوضُ المُقاومَةُ في غزّة حَربَاً دامِيَةً ضِدْ قواتِ الأحتِلالِ، و يتَعَرّضُ أهلُ غزّة لحَربِ أبادَةٍ جَماعِيّةٍ أدَانتْها الهيْئاتُ القَضَائيّةُ و الحُقوقيّةِ و الأنسَانيّةِ العَالميّةِ. و قَدْ شَكّلَتْ سوريا و مِنْ خَلفِها ايْران و حزب الله و اليمن و العراق قَاعِدَةَ اسْنَادٍ عسْكَريّ و دُبلوماسِيّ للمُقاوَمَةِ في غَزّةِ بِشَهادَةِ قَادَتِها. لذَا، يَسْعَى المُنْطَلَقُ الأستْراتِيجِيّ العَربيُّ الى ايْجَادِ حُلولٍ تُوازِنُ بيْن المُعطياتِ الثّلاثَةِ. كانَ الحَلُّ الأَمثَلُ يَتَمَثّلُ في أنْ يُبَادِرَ الأسَدُ الى حمْلَةِ اصْلاحَاتٍ حَقيْقِيّةٍ شَامِلَةٍ تُطَبِّبُ كَثيْراً مِن أوجَاعِ السورييْنَ و تُوجِدُ حالَةَ توَافُقٍ عامٍّ في البَلَدِ و تُحِدُّ منْ خَطَرِ الأنْقِلابِ عليْهِ و خَطِرِ التَغَلغُلِ الأَجنَبي في سوريا في وقْتٍ يرَى فيْه ترامْب صِغَرَ كَيانِ الأحتِلالِ، و يتَوعّد فيْهِ المُجْرمُ نتنياهُو بتَغيْيرِ خَارِطَةِ الأوسَطِ. وَ لَكِنّ الأَسد لَمْ يفْعَلها مَا أَفْقَدَ السّورييْن الأمَلَ في التّغْيْيرِ، و جَعَلَ الثّورَةَ ضِدَّهُ سيْناريُو مُتَوَقَّع؛ قادَتْهُ فَصَائِلٌ مُسَلّحةٌ في ظَرْفٍ صَعْبٍ يَعِيْشُهُ حُلَفاءِ الأسَدِ. في ظِلِّ منْظورٍ استراتيجيٍّ راشِدٍ يُنْصِفُ السّورييْن و يحْفَظُ الدّولةَ السّوريّةَ و حدُودَها و يَضْمَنُ اسْنَادَ المُقاوَمَةِ و يتّقِيْ أطْماعَ الدُّولِ في سوريا، أُقَدِّرُ ضَرُورَةَ تَوَفّرِ عِدّة شَرْوطٍ مُلِحّةٍ للثَوْرَةِ على نِظامٍ مُصِرٌّ على اسْتِبْدادِهِ في تَوقِيْتٍ خَطِرٍ، و هي: أوّلاً، أنْ تَتَمَتّع القُوى القَائِدَة للثّورَةِ بسُمْعَةٍ وَطنِيّةٍ نَظِيْفٍ مُتَّزِنَةٍ لا أنْ يكُونَ سِجِلُّها دمَويّاً تسَلُّطِيّاً. فَلا يُعْقَلُ أنْ يكُونَ الثّائِرُ على اسْتِبْدادِ النّظامِ هو بالأَصْلِ مُستَبِدٌّ لأنّهُ لنْ يُنتِجَ ألا استِبْدَاداً حتّى و انْ تَدَثّرَ بلِيِنِ الحَديْثِ و مُلاطَفَةِ الفُرَقَاءِ. اذ أنّ التحوّلَ في التّنظِيمِ الثّائِرِ منَ التطَرّفِ الى الأعتِدالِ دون وجُودِ مراجَعاتٍ فكريّةٍ يُثيْرُ الشّكَّ و الرّيبَةَ. ثانيّاً، ينْبَغي أنْ تَكونَ القُوى الثّائِرة مُسْتَقِلّة تنْظيميّاً و تمْويْلاً بِدَرجَةٍ كَبيْرةٍ عن الأنظِمَةِ الأقليْمِيّةِ و الدوليِّةِ حتّى لا تَسْلُب تلكَ الأنظِمَةُ قَرارَتها. فقَد شَهِدَتْ ليْبيا تدَخُّلاً أجنَبيّاً مُباشِراً لأسقَاطِ نِظامِ القذّافي، و عاشَتْ بعْدَها لسَنواتٍ قِتالاً دامياً بين الثُوّارِ و أهلِ ليبيا بينَما لمْ تشْهَد ثورةُ تونِس تدخّلاً أجنبيّاً عسكَريّاً، فانتَقَلتْ السُّلطةُ بعْدَها دوُن دِماءٍ و فوْضَى. و هذا درسٌ تاريخيٌّ مفيْدٌ لتَجنُّبِ خطَأ الأعتِمادِ على الأجنَبي لنَيلِ التّحرّرِ الوَطنيّ. ثالِثَاً، ينبَغي أنْ تمْلِكَ القُوى الثّائِرة رؤيَةً مُحَدّدَةً -و لا أقصِدُ خِطَطاً تفْصِيْليّةً- تُبَيّنُ الوِجْهَةَ المُستَقْبَلِيّة كَيْ يَعرِف المواطِنُونَ حُكّامَهُم الجُدُد و مُسْتَقبَلَ بِلادِهم و لا تَحدُثَ حالةُ شَكّ و قَلقٍ في البَلَدِ. أنّ حِمَايَةَ الثّورَةِ أصْعَبُ منْ القِيامِ بالثّورةِ. و هذا يُوجِبُ أنْ تُقَدِّمَ هذه القُوى اجابَات وَاضِحَة لأسئِلَةٍ تُطْرَحُ مبَاشَرً بعَدَ سقُوطِ النّظامِ. تتنوّعُ هذه الأسئِلةُ بين: [أ] قضايا داخليّةِ مثل نظام الحُكمِ، الدُّستور المُناسِبِ، نظام قضائيّ نزيْه، مَصِير الفَصَائلِ المُسَلّحةِ، أنصَار النّظامِ السّابِقِ، حقوق الأقليّات، المشْروع الكُردي في سوريا، عملِ المؤسَّساتِ، الأقتصاد و قَضَايا ذات طَابِع خارجيّ كأمنِ الحُدُودِ، العلاقاتِ الدوليّةِ، الموقِف من المقاومةِ الفلسطينيةِ و التنْظِيماتِ الفلسْطينيةِ في سوريا، احتِلال كيان الأحتلال الجنوب السوري، و احتلال تركيا الشمال السوريّ، و احتلال اميريكا للشمال الشرقي من سوريا. و بِهذا، يكونُ اسقاطُ النّظامِ هدَفاً تكتيْكِيّاً لا نهائيّاً -هدَفُهُ بِناء الدّولةِ لا الزّعامَةِ- ما يَمنَعُ ما تَحْويِلِ سوريا الى ملْعَبٍ لِكُلِّ لاعِبٍ. بالمُحَصّلةِ، أنّ سيَاسَةَ التّمدُّدِ النّاعِم و الهَادِىء في المَنَاصِبِ الهَامّةِ في الدّولَةِ و التّعتِيمِ عن تقْدِيمِ رؤيَةٍ محّدَدةٍ للنّاسِ باطْلاقِ عباراتٍ عامّةٍ تَصْلُحُ لِكُلِّ التأويلاتِ هي سيَاسَةٌ تُعيْدُ انتَاجِ الأسْتِبدادَ و لكِنْ بِشِعَاراتٍ جديِدَةٍ و وجُوهٍ جَديْدةٍ. في الختامِ، يؤمِنُ المُنطَلقُ الرّاشِدُ أنّ سوريا أَحَدْ رَكائِز الأمنِ العَربيّ و المَنْطِقَةِ الرئيسيّةِ. و لذَلكِ يَدْفَعُ هذا المُنطَلَقُ باتّجاهِ سوريا الدّيموقراطيّةِ التي سَتَكُونُ حَتْماً سَنَدَاً قَويّاً للشّعْبِ الفِلسطِيني الأصيْلِ في المَنْطِقةِ في تَحْجِيْمِ كيانِ الأحتِلالِ العابِر و ضَمَانِ استِقرارِ المَنطِقَةِ.