لم تكن حياتها سهلة، إنما شابها الكثير من الصعاب في سبيل تأمين حياة كريمة لعائلتها، وإن كان ذلك في الحدود الدنيا، حيث كان عليها أن تعمل ليل نهار وفي أجواء متعبة وشاقة لكي تؤمن قوت يومها.
كان فجرا باردا، عندما بدأت السبعينية أم خالد الديات لملمة ضمم الخبيزة والفرفحينة والفلفل الملون والباذنجان والخيار البلدي وحبات الليمون، مجمعة في أكياس كبيرة وصغيرة استعدادا لبدء رحلتها اليومية في بيع الخضراوات والأعشاب الخضراء.
تسكن الديات على بعد 12 كيلومترا عن مدينة السلط؛ حيث تصل فجرا كل يوم تفرش بضاعتها على قارعة الطريق، متكلة على الله ومنتظرة زبائنها الذين اعتادوا شراء الأعشاب منها. مع الوقت أصبحت الديات جزءا من المكان وفردا من عائلة المارين من تلك المنطقة الذين يرمون السلام عليها حينا ويبادلونها أطراف الحديث أحيانا أخرى، يطمئنون على أحوالها، ويتفقدون ما تبتاعه من أعشاب اعتادوا شراءها منها.
وفي هذا الوقت من كل عام، تحرص الديات على جمع أعشاب الحواجة المعروفة “حوايج المنسف” التي تقوم بجمعها وتجفيفها وطحنها وبيعها وتشهد إقبالا كبيرا من قبل زبائنها الذين يستخدمونها عند إعداد المنسف وتحضيره.
وتقول الديات “وراء الحواجة التي أبيعها في الكيس مشقة وتعب ورحلة سفر”؛ حيث تذهب ابنتها الكبرى فجر كل يوم إلى مدينة إربد لجمع أعشاب الحندقوق، المحيلبة والورد الأصفر وغيرها من الأعشاب العطرية اللازمة لتحضير بهارات الحواجة، الأمر الذي يتطلب جهدا كبيرا ووقتا ومشقة.
جمع الأعشاب وتضميمها ليس وحده ما تقوم به الديات بعد عودة ابنتها من مدينة إربد؛ حيث تبدأ بتنقية الأعشاب كل نوع على حدة، وتبدأ بجمعها على شكل ضمم، مع الحرص على أن تبقى هذه الأعشاب طازجة.
تقول “أبقى أعمل لوقت متأخر من الليل، وأستيقظ مع ساعات الفجر، ولا يتجاوز نومي بضع ساعات”، مشيرة إلى أن الظروف المعيشية الصعبة التي تعيشها واضطرارها لتأمين قوت يومها لا يمنحها رفاهية النوم والراحة.
ذلك التعب رافقها منذ أن كانت صغيرة، حيث اعتادت العمل ولم يكن لديها خيار آخر، إذ تعيل الديات أسرة مكونة من ثمانية أفراد بعد أن توفي زوجها إثر مرض عضال، ولديها طفل يعاني إعاقة حركية.
الأمومة ومسؤولياتها وقوة الإرادة لم تجعل الديات تستسلم لتصاريف الزمان، واستطاعت أن تمضي في تربية أبنائها رغم المسؤوليات الكثيرة والالتزامات التي أثقلت كاهلها وبدت على ظهرها المنحني، فتجاعيد وجهها تروي ما مر عليها من تحديات ومواقف ومشاكل.
لم تتوان الديات يوما عن العمل، ولم تستلم لليأس، ليال كثيرة كانت تعود إلى ديرعلا بأكثر من نصف حمولة الأعشاب ولم تحصل حتى على ما يكفي لأجرة المواصلات، وكانت تنام على يقين تام بأن غدا سيكون أفضل وستحصل على رزق مكتوب لها وأن كل ما يبذل من جهد من أجل العائلة يستحق الكثير من التعب والشقاء.
رغم كل هذا التعب هناك ضوء أنارته الديات، فلديها خمسة أبناء حصلوا على البكالوريوس أو الدبلوم في تخصصات مختلفة، فذلك كان حصاد تعب السنين، والرضا واضح على وجهها، شاكرة الله على كل ما منحها إياه.
استطاعت الديات أن تزوج ابنها الكبير وكذلك ابنتها الكبرى، إلا أن ذلك تطلب منها الكثير من العمل والجهد والسهر، لكنها لم تتوان يوما عن العمل من أجل إسعاد أبنائها.
لم تكتف الديات ببيع الأعشاب فقط؛ حيث ترافق أبناءها إلى منطقة المزارع لجمع بعض أنواع الخضراوات التي تقوى على حملها مع الأعشاب؛ حيث تبدأ بترتيب الفلفل الملون في أكياس شفافة، كذلك الليمون والخيار والباذنجان والبندورة، فضلا عن أكياس الجزر، في حين تكون قد جهزت من ساعات الليل ضمم الخبيزة والفرفحينة والجرجيز، إلى جانب البصل وأعشاب الحواجة. إلى ذلك، بدأت الديات تسمع عن المشاريع المنزلية المختلفة التي تقوم بها بعض النساء من داخل منازلهن وتحقق دخلا اقتصاديا لا بأس به، الا أن تقدمها في العمر وقضاء معظم وقتها في المزارع وبيع الأعشاب لم يجعلها تفكر في ذلك، إلا أنها لم تتجاهل تلك الفكرة وسعت لتحقيقها من خلال مشروع صغير دشنته لابنتها التي حصلت على دبلوم في التغذية العام الماضي.
تقول “ليس مشروعا كبيرا ولكن مستورة والحمد لله”؛ حيث تحضر ابنتها الزعتر البلدي والسماق والحواجة المطحونة التي تحضرها والدتها، كما تقوم بتحضير توليفة مميزة من الأعشاب العطرية والطبية والمخللات والمربيات وكل ما يمكن أن تنتجه بإمكانيات بسيطة.
ومن جهة أخرى، تقوم ابنتها بتحضير الكثير من الأطباق التقليدية والشعبية، كما تتضمن في بعض الأحيان قائمة مأكولات متنوعة في العزائم والمناسبات والأفراح للوقوف إلى جانب والدتها ومساندتها بالمسؤوليات التي لا تنتهي.
بالقليل من الإمكانيات والكثير من الالتزامات المتراكمة، تسعى الديات، فجر كل يوم، إلى جمع قوت يومها وتأمين علاج طفلها، متكلة على الله واثقة بكرمه وعطائه، وراضية بكل ما كتب لها.
“الأيام الي عشتها ما كانت سهلة أبدا.. بس بحمد الله دائما وأبدا الي أعطاني الصحة والقدرة على الشغل لحتى أعلم أولادي وأطمن عليهم وأؤمنلهم حياتهم بالي بقدر عليه”.. هكذا ختمت الديات حديثها، متمنية أن يكون القادم أجمل، أكثر فرحا وأقل مشقة.