يزداد غموض العلاقات الدولية. تتغير معادلاتها بسرعة لا تناسب عمر الواحد منا. تسبقه فيحاول اللحاق بها لاهثا.
لوهلة يُخيَّل إلينا أن المعسكرات بين شرق وغرب انتهى زمانها، وكذلك التصنيفات بين شمال وجنوب. فما يحصل في ظل الركود العالمي، وتحديدا بعد أزمة “كورونا”، كشف عورات الأنظمة الاقتصادية في الدول المصنفة غنية، وبات يطرح ألف علامة استفهام عن مصير الترف والتقديمات إلى الأفراد. وقد يأتي أوان نشهد فيه أزمات عالم أول لا تختلف عن أزمات عالم ثالث تعوّد بؤسه وفقره.
لم يعد ممكنا استغراب أن يعاني من البرد من حسب أن الدفء تحصيل حاصل ما دام يدفع ضرائبه بانتظام، وأن يعاني من الجوع من لاذ بالمساعدات الاجتماعية في زمن البطالة.
ومن قمة المناخ إلى قمة دول العشرين يبقى الترقب سيد الموقف. ماذا سيفعل الكبار لإنقاذ البشرية؟ أو هل سيفعلون شيئا في الأساس أم أنهم سيبقون متفرجين على الانهيارات الكبرى ومراقبتها لإرساء سياساتهم وفقها؟
في أي اتجاه سيتحرك الكبار؟
من حليف من ومن خصم من؟
هل يمكن لأي طرف وحده التحكم بخيوط اللعبة الدولية؟
أي الأزمات أكثر إلحاحا؟ وهل تكفي معالجة الاقتصادية منها ليستكين العالم؟
أم أن للعسكريتاريا الكلمة الفصل؟
في الأصل، هل يمكن استخدام سياسة التفضيل بين الاقتصاد والعسكرة في حين أن أوعية متصلة هي ما يتحكم بالأزمات ويوحدها؟
وإن كان من الصعب تقدير حجم تجارة سوق السلاح، غير أن معطيات صادراته الأمريكية والروسية والألمانية والصينية وغيرها تشير إلى أنها بعشرات المليارات سنويا. وتبلغ قيمة الميزانية العسكرية الأمريكية لوحدها ما يزيد على 750 مليار دولار أمريكي.
ببساطة، العسكرة تضخ الكثير الكثير في شرايين الاقتصاد. وأي بحث عن وسائل “التعافي الاقتصادي” العالمي في قمة العشرين سيبقى نفخا في قربة مثقوبة، لأن ميزانيات بيع الأسلحة أهم بكثير من معالجة الحاجة إلى نظام صحي عالمي، أو أزمة الطاقة في عدد من بلدان دول العالم، وتحديدا دول أوروبا التي اعتمدت على إمدادات الغاز والنفط الروسي، وها هي ترتجف خوفا، قبل أن ترتجف فعلا مع حلول موسم الصقيع، ولا يمكن إغفال أزمة التضخم وتباطؤ معدلات النمو، التي لم تعد تُفرِّق بين دول غنية أو دول فقيرة.
بالتالي، ومهما حاول المشاركون في قمة دول العشرين لجهة استنباط سياسات دعم اقتصادية يمكنها أن تخفف من حدة آثار الحروب والأوبئة على الاقتصاد العالمي، والتضخم بشكل خاص، يبقى أن المطلوب هو تجفيف بؤر الصراع.
وما لم يعمل قادة هذه الدول على هذا الهدف أينما كان في العالم، بالتأكيد سيزداد الغموض. وما يزيده هو ما يشي بأن القوي يتابع سياسة قوامها الاستعلاء والاستفراد وإضعاف من يصنفهم خصوما، ولا يجد عضاضة في التواصل معهم والتفاوض معهم، ودعمهم من تحت الطاولة ومن فوقها عندما يشعر أنهم على درب الانهيار الشامل.
والسبب هو حاجة القوي إلى ضعيف يتحكم به، ويديره كيفما شاء ليُخْضِعَ من يريد إخضاعه حتى تستوي له وسائل السيطرة أكثر فأكثر على خيوط اللعبة، فيحركها وفق مصالحه العليا.
أكثر من ذلك، هو يعتمد على سياسة التخويف ليسود. وها أن الخوف، وهو الذي لطالما شكل مبدأً في العلاقات بين الدول، يدخل بدوره على المعادلات، ويدفع هذه الدول إلى إجراء تحالفات منبتها الخوف، ولم تكن لتبصر النور لولاه.
والقوي يتفرج ويستفيد من استنزاف الخائفين لقدراتهم في سبيل إما استمرار النفوذ أو دفع الاعتداءات عنهم، واستعدادهم لتقديم التنازلات بغية حماية أنفسهم.
لكن ما لم يحسبه القوي قد يكمن في تحول الخوف إلى دافع لتحرر الخائفين من سيطرته عبر استيلاد وسائل نهضة واستقرار ونمو حتى من العدم، وتهدد هذا القوي من خلال تشبيك علاقات تدفعه هو، بكل قوته، إلى الخوف من الاستغناء عنه، وتضعه على فالق زلازل يجعله يراجع طموحه وجموحه..