مقالات واراء – هلا نيوز – مثنى عبدالله
كان واضحا الإجماع الأوروبي من قضية الحرب في أوكرانيا، كما كان واضحا الاختلاف الأوروبي بخصوص الحرب على غزة. وقد ظهرت هذه الخلافات على أكثر من مستوى، خاصة في الموقف من المعالجة العسكرية الإسرائيلية التي تسبب في سقوط آلاف الضحايا المدنيين، وكذلك من مسألة القضاء على حركة حماس وإبعادها عن غزة، بل ذهب الخلاف إلى أبعد من ذلك في مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، حيث إسبانيا المتحمسة للاعتراف، وألمانيا المعارضة بشدة لهذا الموضوع.
وقد شكّلت هذه الخلافات حجر عثرة أمام دور أوروبي حيوي في عملية ضبط الأوضاع، ومنعها من الانزلاقات الأمنية. كما كانت عامل شلل كبير ساهم في إخراج الفضاء الأوروبي من هذه المعادلة الإقليمية، في حين لو أرادت دول الاتحاد الأوروبي أن تمارس ضغطا على إسرائيل، فإن لديها العديد من الأوراق الثمينة والضاغطة، لكن الاتحاد ما زال يحجم عن تفعيل هذه الأوراق، والسبب في ذلك هو أن الاتحاد الأوروبي يتكون من مجموعة دول لديها مواقف متباينة، والوصول إلى خطة، كيف سيتم الضغط على إسرائيل على أرض الواقع، سواء بعقوبات اقتصادية أو دبلوماسية، يتوجب لذلك توحّد الموقف الأوروبي، في حين لدينا موقف مُساند لإسرائيل من ألمانيا، وموقف مساند لفلسطين من إسبانيا، وموقف متذبذب من فرنسا. لذلك هذه الدول وكأنها اتفقت على أن لا تتفق، وبات الآن أمامنا هذا المزيج من المواقف داخل الاتحاد الأوروبي، لكن ما سر هذا الموقف الازدواجي تجاه الحرب في غزة والحرب في أوكرانيا؟
إن طبيعة العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي وروسيا، قد تدهورت خلال السنوات الأخيرة، ما قبل الحرب في أوكرانيا، وبالتالي تشكّل نوع من العداء المباشر لروسيا وبوتين، وتبني مواقف مؤيدة لأوكرانيا بشكل مباشر. وساهمت رئيسة المفوضية الأوروبية المعروفة بعدائها لروسيا، بمواقفها وتأييدها للرئيس الأوكراني، وزياراتها المتبادلة ولقاءاتها معه، في التأثير على مواقف العديد من دول الاتحاد الأوروبي، وجعلتها تتبنى موقفا مؤيدا لأوكرانيا.
أما في ما يتعلق بغزة، فمن المعروف أن العديد من الدول، خاصة ألمانيا ورئيسة المفوضية الأوروبية فتؤيد بشكل كبير الجانب الإسرائيلي، ليس فقط منذ السابع من أكتوبر، ولكن حتى قبل ذلك، وفي تصريح لجوزيف بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، انتقد بشكل مباشر وعلني رئيسة المفوضية الأوروبية، وقال إن لديها مواقف شخصية مؤيدة تماما لإسرائيل. بالتالي هذا يفسر نوعا ما التباين في مواقف الاتحاد الأوروبي والازدواجية في المعايير بين المواقف إزاء أوكرانيا وإسرائيل. أيضا هنالك سبب جوهري آخر يعزز الاختلاف الأوروبي، وهو سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، القائمة على تعميق العلاقات مع دول أوروبية معينة لترتقي إلى درجة الحلفاء مثل، المجر واليونان والتشيك، ما يجعل من المستحيل على الاتحاد الأوروبي اتخاذ موقف موحد بشأن الصراع في الشرق الأوسط، يضاف إلى كل ذلك السياسات الأمريكية التي صادرت القرارات السياسية والاقتصادية، وحتى العسكرية لدول الاتحاد الأوروبي، وكذلك دخول أحزاب اليمين المتطرف وبقوة في دائرة صنع القرار الأوروبي. طبعا العلاقات التي تربط الاتحاد الأوروبي مع إسرائيل واتفاقيات الشراكة المتقدمة، واتفاقيات التعاون في جميع المجالات والسوق الحرة والسوق الموحدة، كلها تؤكد طبيعة التعامل الأوروبي مع إسرائيل. أيضا تأثير اللوبيات المؤيدة لإسرائيل داخل الاتحاد الأوروبي وغياب المواقف الفلسطينية والعربية الواضحة المعالم.
إن الفراغ السياسي والدبلوماسي دائما ما يحرّك الآخرين لاستغلاله، وفي ظل غياب تأثير أوروبي واضح المعالم، فإنه سيشكل فرصة ذهبية للصين وروسيا لإثبات نفوذهما
إن الاكتفاء بسياسة التنديد الذي تمارسه أوروبا، من دون تثبيت أي شيء على أرض الواقع هو سياسة ورقية، وهذا ما نراه يتكرر على مدى سنوات من موقع الاتحاد الأوروبي، ومن موقع الدول المهمة فيه بالنسبة للنزاعات في الشرق الأوسط، حيث أن دور أوروبا لا يكون أبدا منذ البداية على طاولة النقاش الدبلوماسي، والسبب في ذلك أنها غير قادرة على وضع وزنها مع الولايات المتحدة. وما يحدث دائما هو أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بالتدخل الدبلوماسي أو العسكري، ومن ثم عندما يجب الجلوس إلى طاولة المفاوضات وإعادة ترميم ما تم تدميره، هنا تتم دعوة الاتحاد الأوروبي لدفع التكلفة، وهذا دليل على غياب الأوروبيين، بل إنهم غائبون منذ فترة طويلة، وإن دورهم لا يتعدى دور وسطاء، ولا يمكن التعويل عليهم لفرض حلول. فهناك وساطات يقومون بها وتأتي من ارتباطات تاريخية، أو عمق تجاري مع بعض الدول، مثل علاقة فرنسا بلبنان، أو علاقة بريطانيا بمنطقة الشرق الأوسط. لكن فعليا لا نستطيع أن نعوّل عليهم، لأنه فعليا لم يكن هناك حضور أوروبي إلا على مستوى الوسطاء في الخطوط الخلفية، كما أن حجم التناقض كبير بين الأوروبيين، على سبيل المثال إيطاليا وصلت إلى الصدام المباشر مع فرنسا في ليبيا، وكان كل طرف يدعم طرفا آخر، لذلك لا نستطيع أن نقول إن هناك رؤية واحدة أوروبية من أزمات العالم، وحتى من حلف شمال الأطلسي، لا توجد هذه الرؤية. هناك اختلافات كبيرة حول الأولويات في البحر الأبيض المتوسط والبلطيق كانت تسود لسنوات، ثم جاءت الولايات المتحدة عبر حرب أوكرانيا لتحاول أن تخلق موقفا أوروبيا موحدا، لكن في النهاية تكون البراغماتية الاقتصادية والمصالح هي التي تحرك الجميع.
إن الفراغ السياسي والدبلوماسي دائما ما يحرّك الآخرين لاستغلاله، وفي ظل غياب تأثير أوروبي واضح المعالم، فإنه سيشكل فرصة ذهبية للصين وروسيا لإثبات نفوذهم في المنطقة ليس في الشرق الأوسط وحسب، بل رأينا محاولات إثبات هذا النفوذ في افريقيا أيضا، بعد المشاكل التي واجهتها فرنسا في هذه المنطقة والانقلابات العسكرية التي حصلت فيها، والتي أضعفت الوجود الفرنسي والنفوذ الأوروبي عن طريق فرنسا في هذه المنطقة. وعندما نتحدث عن تشتت الاتحاد الأوروبي على أنه فرصة للصين وروسيا فهو كذلك، لكن هناك نقطة مهمة وهي يجب أن لا ننظر فقط إلى المستفيد الخارجي، بل يجب أن ننظر إلى المستفيد الداخلي أيضا، فهناك العديد من الدول الأوروبية مع صعود اليمين فيها بدأت ترى أن الاتحاد الأوروبي بالنسبة لها مؤسسة لا تفهم خصوصياتها الوطنية، ولديه قرارات مُسقطة عليها، قرارات تُضعف اقتصاداتها وتُضعف متانة حدودها. وطبعا ستكون هنالك فجوة للصين وروسيا للدخول إلى الساحة الدبلوماسية، ولكن ما يحدث الآن يُرينا هشاشة مؤسسة الاتحاد الأوروبي وربما في المستقبل تداعي هذه المؤسسة، هل يمكن أن يتشكل رأي عام أوروبي قد يتحول إلى قوة ضاغطة على القيادات الأوروبية ويرغمها على تبني مواقف أكثر حزما تجاه إسرائيل؟
المظاهرات المتكررة في مدن أوروبية مختلفة هو عامل مهم في القول، إن الرأي العام هو وسيلة ضغط سياسي شعبي. كما أن الصور التي تخرج من غزة والمواقف المتباينة والمخُجلة لهذه الدول قد تؤجج الرأي العام بصورة أكبر.
كاتب عراقي