هلا نيوز – فيصل القاسم
من قال لكم إن الأنظمة العربية وخاصة الديكتاتوريات العسكرية لا تجاري التقدم التكنولوجي والإعلامي الهائل الذي يجتاح العالم؟ على العكس من ذلك، فإن الجنرالات العرب يترقبون دائماً وعلى أحر من الجمر الاختراعات الجديدة كي يستغلوها في حماية أنفسهم وقمع شعوبهم، ولا بد من التذكير في هذا المقام أنه عندما ظهر أول كومبيوتر عملاق في العالم سارع النظام التونسي بقيادة زين العابدين بن علي والنظام السوري إلى شراء ذلك الجهاز فوراً، لكن ليس كي تستفيد منه الجامعات التونسية والسورية ومراكز البحوث، هذا إن وجدت، بل كي تستغله أجهزة المخابرات التونسية والسورية في مراقبة الشعب وضبط حركته وإبقائه تحت عين الأجهزة على الطريقة الأورويلية كما رأيناها في رواية جورج أورويل الشهيرة «مزرعة الحيوان».
لكن الأنظمة المخابراتية البوليسية في العالم العربي وبلا شك شعرت بكثير من الرعب والخوف عندما ظهر البث الفضائي والصحون الهوائية، وبدأت الشعوب تشاهد الفضائيات والبرامج العابرة للحدود. وكلنا يتذكر كيف واجهت الأنظمة القمعية تلك الظاهرة الإعلامية الجديدة بإجراءات عشوائية تعسفية، فمنع بعضها تركيب الصحون، بينما عمل البعض الآخر على تقنين القنوات المسموح بمشاهدتها عبر أجهزة خاصة تحت مراقبة الحكومات. ولا شك أنكم تتذكرون أيضاً كيف كان بعض الأنظمة يمنع الشعب من مشاهدة بعض القنوات والبرامج وكيف كانت المخابرات تحقق مع بعض المواطنين الذين كانوا يتابعون هذا البرنامج أو ذاك. لكن تلك الأنظمة لم تصمد في وجه الفيضان الإعلامي الذي راح يتطور يوماً بعد يوم، فاضطرت للسماح بالقنوات الفضائية رغماً عنها، ثم سمعناها لاحقاً وهي تحمّل بعض القنوات مسؤولية اندلاع الثورات الشعبية. وما زال النظام السوري ويا للسخافة حتى اليوم يعزو كل الخراب والدمار الذي اقترفه في سوريا إلى القنوات المغرضة. لكن من يصدق هذا الهراء وهذه الهلوسات التي مازالت تراود عقول الطواغيت؟
ولعل الضربة القاضية التي لم تستطع الأنظمة الديكتاتورية تحملها كان ظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي عملياً حوّلت البشرية جمعاء إلى ناشرين بعد أن كان الناس في الماضي لا يستطيعون نشر سطر واحد في جريدة رسمية، وكان أقصى ما يحلمون به طلب أغنية معينة في برامج ما يطلبه المستمعون. لقد شكلت مواقع التواصل أكبر تحد تاريخي لأنظمة القمع والمنع، خاصة وأنها أصبحت بمثابة برلمانات شعبية حقيقية تنشر الشعوب عبرها كل همومها المعيشية والسياسية بلا رقيب ولا حسيب. صحيح أن الأنظمة وضعت قوانين صارمة وراحت تلاحق رواد المواقع وترهبهم عبر أجهزة أمنية خاصة مهمتها متابعة ما ينشره الشعب، لكن المهمة كانت صعبة جداً، خاصة وأنه بمقدور أي شخص أن يدخل إلى تلك المواقع بأسماء وهمية ويمسح الأرض بهذا النظام أو ذاك أو بهذا الرئيس أو ذاك، بحيث سقطت كل المحرمات السياسية. ماذا ستفعل الأنظمة العربية في هذه الحالة بعد أن غدت عملية ضبط النشر الإلكتروني شبه مستحيلة، خاصة إذا كان الناشرون خارج البلاد؟ وجدتها وجدتها، فقد تفتق ذهن بعض الأنظمة الغشيمة عن تشكيل جيوش الكترونية من عشرات آلاف الأشخاص ومهمتهم الرئيسية أن يتصدوا لأي مغرد أو ناشط ينشر منشورات ناقدة لهذا النظام أو ذاك. وقد أصبح الجميع تقريباً يعرف ما يسمى بـ«الذباب الإلكتروني» الذي بات يلوث الفضاء الإلكتروني في «فيسبوك» و«تويتر» وغيرهما من مواقع التواصل التي باتت ترعب هذا الديكتاتور أو ذاك.
لعل الضربة القاضية التي لم تستطع الأنظمة الديكتاتورية تحملها كان ظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي عملياً حوّلت البشرية جمعاء إلى ناشرين بعد أن كان الناس في الماضي لا يستطيعون نشر سطر واحد في جريدة رسمية
وبمجرد أن ينشر أي مغرد أو ناشط الكتروني بضع كلمات ضد بعض الأنظمة، ينهال عليه الذباب الإلكتروني الذي جندته أجهزة المخابرات، بوابل من الشتائم الكوميدية السخيفة والوضيعة والاتهامات المفبركة الرخيصة، كأن يتهموا مثلاً صاحب التغريدة بأن له أختاً تعمل قاضية في إسرائيل، مع أن المغرد سوري، ولا أدري من أين اخترعوا له هذه الأخت. ولعل السمة الأبرز للذباب الإلكتروني المخابراتي أنه يوزع شهادات بالوطنية والشرف والعمالة والخيانة على كل من يناهض هذا النظام أو ذاك. ومن أكثر التهم التي يوجهها لنا الذباب أنك عميل صهيوني… يعني وكأن جيوش الديكتاتوريات العسكرية العربية ترابط على أبواب القدس ما شاء الله وهي على وشك تحريرها من الصهاينة ونحن نشوش عليها في فيسبوك وتويتر، بينما تلك الأنظمة في الواقع تنام إما في حضن أمريكا أو إسرائيل أو فرنسا وغيرها، أضف إلى ذلك أنها عنوان لكل أنواع العمالة والخيانة المفضوحة. بعبارة أخرى فهي تماماً كالساقطة التي تحاضر بالشرف.
لا شك أن فكرة الذباب الإلكتروني فكرة صبيانية مخابراتية رديئة تفضح أصحابها قبل أن تنال من أي مغرد أو ناشط إلكتروني، فمعظم الذين يشتغلون في الجيوش الإلكترونية شبه أميين لا يفقهون شيئاً سوى استخدام مجموعة من الكلمات البذيئة التي اختارها لهم ضابط المخابرات. ومن الواضح أن الأجهزة التي تدرب الذباب الإلكتروني على الهجوم على هذا المغرد أو ذاك بطريقة بذيئة وقذرة جداً ربما غاب عن بالها أنها كمن يطلق النار على قدميه، فعندما يقرأ رواد المواقع كلمات وعبارات الذباب الإلكتروني، فلا شك أنهم سيقولون فوراً إن هذا الجرو من ذاك الكلب، وأن الذباب بالتأكيد يمثل عقلية وأخلاق مموليه وموجهيه، فالكلاب البوليسية الإلكترونية التي تنبح في مواقع التواصل وتلوثه بقذاراتها نيابة عن أجهزة المخابرات العربية تعطي أسوأ انطباع عن تلك الأجهزة والأنظمة التي تدافع عنها، بحيث يتساءل المتابعون: أليس لدى تلك الأنظمة الشمولية غير هذه الطريقة البدائية التافهة لمهاجمة المعارضين لها على الأثير الإلكتروني؟ ألم تجد من يدافع عنها سوى هذا الرهط من المراهقين الساذجين الذين لا يتقنون حتى اللغة العربية، ويرددون اتهامات وعبارات في غاية الانحطاط والسطحية؟ إياكم أن تظنوا أن عشرات الألوف الذين يهبون للدفاع عن هذا النظام أو ذاك في مواقع التواصل هم مواطنون وطنيون، لا أبداً، بل هم مجرد كلاب إلكترونية مسعورة بإدارة مخابراتية.
هل تعتقد مخابرات العالم الافتراضي العربية أنها بهذا الذباب السخيف تستطيع أن تحمي الأنظمة؟ هل يعقل أن تجند عشرات الألوف وتدفع الملايين لحماية نفسها من تغريدة؟ ألا تعطي انطباعاً لمواطنيها وللعالم أنها أوهن من بيت العنكبوت وبمقدور أي مغرد أن يزلزل الأرض من تحتها؟ هل تعتقد أنها بهذا الأسلوب الدفاعي الرخيص والصبياني ستتمكن من ردع المغردين والناشطين والإعلاميين وأصحاب الرأي، أم ستجعلهم يستمتعون بهز شباكها واللعب بأعصابها وتحويلها إلى نكتة سخيفة. هل تعتقدون أن ذبابكم الإلكتروني سيوقف المغردين عن مهاجمتكم، أم سيحرضهم على المزيد؟
أيها الأغبياء، هل استطعتم من قبل أن توقفوا البث الفضائي أو النشر الإلكتروني كي تستطيعوا اليوم أن تتصدوا لتكنولوجيا الاتصالات وطوفان مواقع التواصل بجيوش من الذباب السفيه الذي أصبح لدى الرأي العام رمزا لكل ما هو بذيء؟
كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com