مقالات واراء – الدكتور فيصل القاسم – هلا نيوز
من يتابع الصراعات الدائرة عربياً بين الملحدين والمؤمنين منذ زمن بعيد، وخاصة اليوم على أثير مواقع التواصل الاجتماعي سيتفاجأ بأن الطرفين يتناقشان وكأنهما يمتلكان الحقيقة الكونية النهائية كاملة، بينما في الواقع، تبقى طروحات الجانبين مجرد اجتهادات محدودة ومضحكة، فمهما نهل البشر من العلم، فإن علمهم يبقى قاصراً عن فهم أسرار الكون والحياة، وبالتالي، فإن لا الملحدين ولا المؤمنين قادرون على الجزم بأي شيء، لذلك فإن صراعاتهم تبقى عقيمة، لأنهم أضعف بكثير من معرفة نزر قليل من الحقيقة الكونية التي يحاول البشر الوصول إليها منذ آلاف السنين دون جدوى. لا أدري كيف يتجرأ متديّن لا يملك من العلم سوى شهادة جامعية في فرع بسيط من فروع الدين أو ملحد ناجح في الثانوية (شحط) لا أدري كيف يتجرأ على إطلاق أحكام قطعية على نشأة الكون والخلق وتطوره ومعنى الحياة، وفيما إذا كان هذا الكون مصنوعاً أم عبثياً. فإذا كان كبار العلماء الذين غيروا وجه التاريخ يراجعون نظرياتهم، فكيف يؤكد من يسمون أنفسهم مؤمنين أو ملحدين أو ينفون أشياء لا يعلمونها ولا يفهمونها أصلاً. ولعلكم تذكرون أن أرسطو كبير فلاسفة الإغريق ومن بعده العالم الفلكي الشهير بطليموس كانا يعتقدان أن الأرض مركز الكون. وظل هذا الاعتقاد سائداً لحوالي ألفي سنة بسبب إرهاب الكنيسة، ثم تبين لاحقاً أن أرسطو وبطليموس كانا يهذيان.
وحتى عندما تطورت العلوم وبدأ العلماء يتوصلون إلى اكتشافات عظيمة، بدأ بعضهم يبشر البشرية بأن العلم اقترب كثيراً من معرفة أسرار الكون، وقد قال الفيزيائي البريطاني الشهير (اللورد كالفن) بعد اكتشاف (الديناميكا الحرارية) في القرن التاسع عشر إنه لم يبق أمام العلم سوى القليل حتى يحل كل الألغاز والأسرار، وأن علم الفيزياء يكون قد أكمل عمله تماماً. لكن فجأة أطل علينا (أينشتاين) في بداية القرن العشرين بنظرية (النسبية) ثم ثورة (ميكانيكا الكم) لتنسف كل النظريات السابقة ولتغير حتى مفهوم الفيزياء بأكمله.
قليل من التواضع أيها الملحدون والمؤمنون، لأن أكثر ما يثير الضحك في طروحاتكم أنكم قطعيون ومكابرون بطريقة كوميدية وأنتم تنفون أو تؤكدون، بينما كبار العلماء الذين اكتشفوا بعض أعظم أسرار الكون والطبيعة أدركوا لاحقاً أنهم لم يكتشفوا إلا القليل، أو جاء علماء لاحقون ليصححوا أخطاءهم، كما حصل مع (إسحق نيوتن) صاحب نظرية (الجاذبية) وهي من أعظم الاكتشافات البشرية عبر التاريخ الإنساني. وكلنا يعلم كيف جاء ألبرت أنيشتاين لاحقاً ليجد الكثير من الهفوات في نظرية نيوتن، وحتى الأخير نفسه اكتشف في آخر حياته أن نظريته (النسبية) العظيمة كانت منقوصة، خاصة نفيّه المستمر لإمكانية تمدد الكون وتضخمه، فجاء علماء مثل (جورج لوميتر) البلجيكي صاحب نظرية (البيضة الكونية) و(إيدوين هابل) الأمريكي صاحب التليسكوب الشهير و(جورج غاموف) الروسي و(روبرت ديكي) الأمريكي ثم المهندسان (روبرت ويلسون) و(آرنو بينزياس) ثم (آلان غوث) ليؤكدوا حدوث التمدد الكوني الذي كان ينفيه أينشتاين في نظريته على الدوام.
وقد اعترف بندمه في آخر حياته. وحتى (ستيفن هوكنغ) صاحب نظرية (الثقوب السوداء) وقع في الخطأ نفسه في ثمانينيات القرن الماضي عندما تنطع وقال إنها سنوات قليلة فقط وسنعلن النصر النهائي للعقل البشري، ثم تبين لاحقاً أنه كان يهذي أيضاً. وعندما خرج علينا العلماء بنظرية (الانفجار العظيم) ثم اكتشفوا (الدي أن أي) أيضاً راحوا يبشرون العالم بأنهم أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على كل أسرار الخلق، ثم أدركوا لاحقاً أن نظرياتهم تبقى مجرد نظريات، بما فيها نظرية (الانفجار العظيم) فلا أحد مثلاً يعلم كيف نشأ الكون حتى الآن، فنظرية الانفجار تخبرنا فقط عما حصل خلال جزيء من الثانية أو ثلاث دقائق بعد الانفجار قبل حوالي أربعة عشر مليار عام كما يروي العالم الكويتي الدكتور يوسف البناي في كتابه (الدقيقة الثالثة للخلق) لكن لا أحد يعلم ما حصل قبلها مطلقاً فيما يسمى لحظة (بلانك). ثم يأتيك عالم مثل هوكنغ لاحقاً ليقول لك إن نظرية الانفجار مهزلة، فالكون لم ينفجر، بل هو مستدير وأزلي.
وهلم جرّا. باختصار، فإن العلماء أنفسهم تائهون وحائرون ومختلفون، فكيف يأتينا ملحد لا يعرف أن يكتب جملة بدون أخطاء إملائية ليقول لنا مثلاً إن الكون عبثي، أو يأتيك متديّن صغير يستخدم الدين لتفسير كل الظواهر الكونية المعقدة والمجهولة. هل تعلمون أن الكواكب والنجوم والمجرات على ضخامتها لا تشكل سوى خمسة بالمائة من المادة التي يتكون منها الكون، أي أن المرئي من الكون يشكل خمسة بالمائة فقط، بينما تشكل (المادة المظلمة) و(الطاقة المظلمة) غير المرئيتين والمجهولتين لوحدهما خمسة وتسعين بالمائة. ثم يأتيك ملحد لا يعرف كوعه من بوعه ليجزم بأن الكون عبثي، مع العلم أن أينشتاين نفسه قال حرفياً: «الإله لا يلعب بالنرد مع الكون» حتى ولو لم يكن يقصد الإله بمفهومه الديني، ناهيك عن أن (فيزياء الكم) تخبرنا أن الجسيمات والجزيئات التي تتكون منها الذرة لها أوزان محددة بدقة عالية جداً، ولو زاد وزن أحدها واحداً بالتريليون لاختل توازن الكون، ولو ارتفعت درجة الحرارة في كل متر مربع من الأرض بشكل بسيط جداً لاختفت المحيطات والبحار ولم يبق كائن على وجه الأرض، ولو ارتفع وزن الهواء الذي نستنشقه واحداً بالتريليون لانقرضت البشرية بلمح البصر. هل هذا التوازن الكوني الرهيب عبث أيها العابثون؟ باختصار إذاً يصبح الجزم في القضايا الكونية مستحيلاً، لأننا جميعاً، مؤمنين وملحدين، غير قادرين باختصار على استيعاب أو فهم الخلق المرئي في كوكب الأرض، فكيف بالمخفي؟ ولا ننسى أن عقلنا البشري أصغر بكثير من فهم أبسط الأمور المرئية، فما بالك بمسألة نشأة الكون وكيف تطور ومن يديره. وقد هز الفيلسوف الألماني الشهير (إيمانويل كانط) في كتابه المثير (نقد العقل المحض) ثقتنا بالعقل البشري أصلاً، وتساءل: هل نثق بالعقل كي نفهم هذا العالم أم إن العقل المسكين في الحقيقة قاصر جداً ويقوم دائماً بتعديل العالم الخارجي وتحويره والتلاعب به ذهنياً كي تصبح المعرفة البشرية البسيطة ممكنة؟ فإذا كانت عقولنا الصغيرة غير قادرة على استيعاب ظواهر كوكب الأرض الذي يبدو كذرة طحين مقارنة بحجم الكون، فكيف لنا أن نستوعب الكون نفسه؟
كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com