مدينة غزة هي واحدة من أبرز المدن الفلسطينية التي تتمتع بمكانة استثنائية في التاريخ والحضارة، وتُعدّ نقطة اجتماع حضاري بين الشرق والغرب، حيث تمتزج فيها عناصر الثقافات المتعددة والتأثيرات الإقليمية، مما يجعلها مدينة متنوعة وغنية بالتراث والتاريخ.
تاريخ غزة طويل ومتنوع، حيث شهدت مرور الكثير من الحضارات والإمبراطوريات على مر العصور، وتعددت السيطرات والهيمنات على المدينة، لكنها تمكنت دائماً من البقاء كمركز حضاري مهم، إذ تمكن رؤية هذا التنوع في الهندسة المعمارية والتحف الأثرية والعادات والتقاليد التي تعيشها المدينة.
أين تقع غزة؟
غزة هي مدينة ساحلية في فلسطين، وهي أكبر مدينة في قطاع غزة وتقع في الشمال، وتقع على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وتبعد نحو 78 كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من مدينة القدس.
تُعدّ مدينة غزة مركز محافظة غزة وأكبر مدينة في السلطة الفلسطينية من حيث عدد السكان. وفي عام 2023، بلغ عدد سكان محافظة غزة نحو 641.936 ألف نسمة، مما يجعلها أكبر تجمع للفلسطينيين في فلسطين، وتقدَّر مساحتها بنحو 56 كيلومتراً مربعاً، مما يجعلها واحدة من أكثر المدن اكتظاظاً بالسكان في العالم.
تحتل مدينة غزة مكانة مهمة في فلسطين بسبب موقعها الاستراتيجي وأهميتها الاقتصادية والعمرانية، كما أنها المقر المؤقت للسلطة الوطنية الفلسطينية، وتضم الكثير من مقراتها ووزارتها.
تعد مدينة غزة إحدى أقدم المدن في العالم، واكتسبت شهرة كبيرة بفضل موقعها الجغرافي الحيوي، حيث تقع على تقاطع قارتَي آسيا وإفريقيا. هذا الموقع المميز منحها أهمية استراتيجية وعسكرية كبيرة، حيث كانت تُعدّ الحاجز الأول للدفاع عن فلسطين المحتلة.
بفضل موقعها المتقدم، لعبت غزة دوراً كبيراً في حماية الأمن المصري في شمال شرق البلاد، وكانت ميداناً للصراعات العسكرية بين الإمبراطوريات القديمة والحديثة، بما في ذلك الإمبراطوريات الفرعونية والآشورية والفارسية واليونانية والرومانية والصليبية.
بالإضافة إلى ذلك، يعزز موقع غزة المميز أهميتها؛ كونها تقع على خط التقسيم المناخي، حيث تجمع بين مناخ الصحراء جنوباً ومناخ البحر الأبيض المتوسط شمالاً، وبفضل هذا الموقع، أصبحت مركزاً تجارياً مهماً تُتبادل فيه المنتجات العالمية.
كما تقع مدينة غزة على تلة صغيرة ترتفع نحو 45 متراً فوق سطح البحر، وتبعد نحو ثلاثة كيلومترات عنه، وكانت المدينة القديمة تشمل مساحة تقدر بنحو كيلومتر مربع. وكانت محاطة بجدران كبيرة تحتوي على أبواب متعددة من كل اتجاه، أهم هذه الأبواب كانت باب البحر (أو باب ميماس) نحو الغرب، وباب عسقلان نحو الشمال، وباب الخليل نحو الشرق، وأخيراً باب الدورب (أو باب دير الروم) نحو الجنوب، تغيرت هذه الأسماء مع مرور الزمن واختلاف الإمبراطوريات، وكانت هذه الأبواب تُغلق عادةً مع غروب الشمس، مما جعلها قوية ومحصنة ضد الأعداء.
سبب تسمية غزة
لم يُثبت بدقة سبب تسميتها بهذا الاسم، لأن الأمم التي مرت بها قد غيّرت اسمها عدة مرات، فكانت تُعرف بـ”هزاتي” لدى الكنعانيين، و”غزاتو” لدى الفراعنة، و”عزاتي” و”فازا” لدى الآشوريين واليونانيين، و”عزة” لدى العبرانيين، و”غادرز” لدى الصليبيين، أما الإنجليز فيطلقون عليها اسم “غزة” وبالإنجليزية (Gaza).
هناك اختلاف في تفسير سبب تسميتها “غزة”؛ فبعض المؤرخين يعتقدون أنها اشتُقت من كلمة “المَنَعَة” و”القوة”، وآخرون يرون أنها تعني “الثروة” أو “المميزة” بصفاتها الخاصة، إلا أن ياقوت الحموي ذكر في معجمه أنها تعني “أن يُميَّز شخصٌ ما بشيء خاص من بين أصحابه”.
أما بالنسبة إلى العرب، كانت غزة مكاناً مهماً للغاية، حيث كان تجارهم يزورون المدينة في رحلاتهم التجارية والسفر، وكانت مركزاً للكثير من الطرق التجارية، وكانت أيضاً الهدف في إحدى الرحلات الشهيرة التي ذُكرت في القرآن الكريم في سورة “قريش”، حيث كان القرشيون يذهبون إلى اليمن في الشتاء وإلى غزة ومناطق الشام في الصيف، وفي إحدى رحلات الصيف هذه، توفي هاشم بن عبد مناف، جد النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)، ودُفِن في غزة في جامع السيد هاشم في حي الدرج.
أهم المعالم في غزة:
- المجلس التشريعي الفلسطيني
هو هيئة حكومية تأسست في فلسطين بموجب اتفاقية أوسلو، التي وقعت عليها منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل، وأُسس المجلس في عام 1996 بعد إجراء الانتخابات التشريعية في فلسطين، إذ يُعدّ من أهم مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية.
يتألف المجلس التشريعي من 132 عضواً يُنتخبون من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، وتشمل مهام المجلس وظائف تشريعية تتضمن صياغة وسنّ القوانين والأنظمة التي تنظم الإدارة العامة والشؤون المالية والاقتصادية في فلسطين، بالإضافة إلى ذلك، يلعب المجلس دوراً سياسياً في مناقشة ودعم قضايا الشعب الفلسطيني، ويشارك في تنظيم الشؤون العامة ومراقبة الحكومة وأداء دور رقابي مهم.
منذ تأسيسه، شهد المجلس التشريعي الفلسطيني تطورات وتحديات متعددة، بما في ذلك الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أثّرت على دوره وأدائه، يظل المجلس جزءاً أساسياً من هياكل الحكم في فلسطين ويسهم في تشكيل السياسات واتخاذ القرارات المهمة لصالح الشعب الفلسطيني ومستقبله.
- جامعة الأزهر-غزة
تأسست جامعة الأزهر-غزة في عام 1991 بهدف تلبية احتياجات الشعب الفلسطيني في مجال التعليم العالي، حيث بدأت الجامعة بكليتين فقط وهما كلية الحقوق وكلية التربية، ثم توسعت لتشمل كليات أخرى مثل الصيدلة والزراعة والعلوم والآداب الإنسانية، في ما بعد، وأُنشئت كليات إضافية مثل كلية العلوم الطبية التطبيقية وكلية الطب.
تميزت الجامعة بسرعة نموها وتطورها، وبنت مرافقها الخاصة مثل المباني والمختبرات الحديثة والمكتبات الغنية بالمصادر العلمية، بالإضافة إلى ذلك، أنشأت الجامعة دائرة التعليم المستمر لتقديم التدريب والتأهيل للمواطنين وموظفي المؤسسات المختلفة.
- الجامعة الإسلامية
الجامعة الإسلامية في غزة هي مؤسسة تعليمية مستقلة في فلسطين تأسست عام 1978، وتُشرف عليها وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية، حيث تهدف الجامعة إلى تقديم تعليم ملتزم بالقيم الإسلامية وتوفير بيئة أكاديمية تراعي ظروف الشعب الفلسطيني، وتتعاون الجامعة مع الكثير من الجامعات العربية والأجنبية.
الحرم الرئيسي للجامعة يقع في منطقة الرمال بمدينة غزة بالقرب من البحر، وللجامعة مواقع أخرى في قطاع غزة، حيث يبلغ إجمالي عدد الطلاب في الجامعة نحو 20 ألف طالب وطالبة، وتقدم الكثير من البرامج والدرجات الدراسية في مجموعة متنوعة من التخصصات.
- الجامع العُمريّ الكبير
الجامع العُمريّ الكبير هو أقدم وأكبر مسجد في قطاع غزة، حيث سُمي بهذا الاسم تكريماً للخليفة عمر بن الخطاب، وهو موقع قديم كان معبداً فلسطينياً ثم تحول إلى كنيسة بيزنطية وبعد الفتح الإسلامي أصبح مسجداً، وقد وصفه ابن بطوطة في القرن العاشر بأنه “المسجد الجميل”.
تعرض المسجد لأضرار بسبب زلزال في عام 1033م، وجرى تحويله إلى كاتدرائية صليبية لفترة وجيزة، ثم أعاد المماليك بناءه مسجداً في القرن الثالث عشر، ثم دُمِّر مرة أخرى بواسطة المغول في 1260م، ولكن أُعيد بناؤه بسرعة آنذاك.
وفي القرن السادس عشر، أعاد العثمانيون بناءه بعد مرور نحو 300 عام من الزلزال، ثم تضرر بالقصف البريطاني في الحرب العالمية الأولى ورُمِّم في عام 1925م.
- جامع السيد هاشم
مسجد السيد هاشم هو واحد من أقدم المساجد في غزة، يقع في حي الدرج بالمدينة القديمة، وبُني بشكل مهم وأصلي، وأُسِّس على يد المماليك، ثم جُدِّد بواسطة السلطان عبد المجيد العثماني في عام 1830م.
تاريخياً، كانت هناك مدرسة في المسجد أُقيمت من مال الوقف بواسطة المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في فلسطين، وتعرض المسجد لأضرار جراء القنبلة خلال الحرب العالمية الأولى وجرى إصلاحه بواسطة المجلس الإسلامي الأعلى.
- كنيسة الروم الأرثوذكس
هي مجموعة من الكنائس الأرثوذكسية الشرقية التي تَستخدم تقاليدها ولغتها التقليدية باللغة اليونانية، وتأسست هذه الكنائس في العصور الأولى للمسيحية واحتفظت بتقاليدها الدينية والثقافية منذ ذلك الحين.
ترتبط هذه الكنائس بالتاريخ البيزنطي وتُعدّ فرعاً من المسيحية الأرثوذكسية الشرقية، وفي القرون الأولى للمسيحية، انتشرت اللغة اليونانية وأصبحت لغة الكتابة واللاهوت في هذه الكنائس، كما تأثرت بشكل كبير بالكنيسة القسطنطينية واعتمدت الكثير من طقوسها وتقاليدها.
تاريخ غزة
في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، أسس الكنعانيون مدينة غزة، وخلال تاريخها، تعرضت للاحتلال من مختلف الغزاة مثل الفراعنة والإغريق والرومان والبيزنطيين والعثمانيين وغيرهم.
أشهر ذِكر للمدينة كان في مخطوطة للفرعون تحتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وأيضاً في رسائل تل العمارنة، وبعد حكم الفراعنة المدينة لمدة 300 سنة، استوطنها الفلسطينيون عام 635م.
دخل المسلمون المدينة في العام نفسه وأصبحت مركزاً إسلامياً مهماً، ومعروفة بقبر الجد الثاني للنبي محمد (صلّى الله عليه وسلم)، كما عُدّت مسقط رأس الإمام الشافعي.
وخلال فترة الحملات الصليبية، سيطر الأوروبيون على غزة، لكنها عادت إلى السيطرة الإسلامية بعد انتصار صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين عام 1187، وتطورت المدينة بشكل كبير تحت الحكم العثماني وأسست أول مجلس بلديّ عام 1893.
في أثناء الحرب العالمية الأولى، سقطت المدينة في يد القوات البريطانية وأصبحت جزءاً من الانتداب البريطاني على فلسطين، وبعد حرب 1948، أُديرت غزة من مصر وأُجريت تحسينات في المدينة.
بعد الانتصار في حرب عام 1967، سيطرت إسرائيل على مدينة غزة ومنطقة قطاع غزة بشكل عام، واستمر هذا الاحتلال لمدة تقدر بـ27 سنة. خلال هذه الفترة، عانت المدينة والمنطقة المحيطة بها الاحتلال الإسرائيلي الذي أثر بشكل كبير على حياة السكان. بالإضافة إلى ذلك، صادرت سلطات الاحتلال مساحات كبيرة من الأراضي في قطاع غزة واستخدمتها لإقامة المستوطنات الإسرائيلية.
وفي عام 1987، شهدت مدينة غزة اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حيث شارك سكان المدينة بنشاط في الاحتجاجات ضد الاحتلال، وتمثل هذه الفترة تحولاً مهماً في مسار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث تصاعدت التوترات والمواجهات بين الشعب الفلسطيني والقوات الإسرائيلية.
ورداً على هذه الانتفاضة، اتخذت إسرائيل إجراءات قمعية بحق الفلسطينيين، بما في ذلك إغلاق المدارس وحظر التجول واعتقالات جماعية.
بعد صدور الاتفاقية التي أبرمها رئيس وزراء إسرائيل ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية في سبتمبر 1993، جرى الاتفاق على انسحاب إسرائيل من مدينة غزة ومناطق أخرى في 1994. في مايو 1994، انسحبت القوات الإسرائيلية جزئياً من المدينة، وبدأت السلطة الفلسطينية في إدارتها.
ومع ذلك، استمر بعض المستوطنات تحت السيطرة الإسرائيلية في قطاع غزة. وتماماً في أغسطس 2005، انسحبت إسرائيل بالكامل من قطاع غزة بقرار من رئيس الوزراء الإسرائيلي، وبقي قطاع غزة محاصراً، براً وبحراً وجواً.
فيما بعد، اندلعت مناوشات بين حركتَي “فتح” و”حماس”. وفي يونيو 2007، سيطرت “حماس” على قطاع غزة بالكامل. وفي نوفمبر 2008، بدأت إسرائيل حملة عسكرية شنتها على قطاع غزة، وأسفرت عن وفاة الكثير من المدنيين، وحاصرت إسرائيل قطاع غزة ومنعت إمدادات الكهرباء والوقود والأدوية، حيث يستمر الحصار حتى اليوم، مما أدى إلى معاناة كبيرة للسكان.
جرت محاولات متكررة لكسر الحصار عن طريق إرسال سفن محمَّلة بالمساعدات الإنسانية، لكن إسرائيل منعتها، وفي 2010، تعرض أسطول الحرية لهجوم إسرائيلي.
ثم في 2012، شنت إسرائيل هجوماً آخر على غزة، وردَّت المقاومة الفلسطينية عبر إطلاق صواريخ نحو إسرائيل، وفي 2014، اندلعت حرب أخرى مميتة في غزة.
هذه الأحداث جعلت من قطاع غزة مكاناً مليئاً بالمعاناة والصراع طويل الأمد. وجدير بالذكر أن الاحتلال الإسرائيلي ما زال يشن هجومه على الأراضي الفلسطينية حتى يومنا هذا.
الخلاصة
في الختام، تحمل مدينة غزة عبقاً تاريخياً متميزاً يشكل جزءاً لا يتجزأ من تراث فلسطين والعالم العربي، حيث تعكس غزة بتاريخها المتنوع والمعمار الفريد، تأثير الحضارات المختلفة التي عاشت فيها وسادتها.
إن تاريخها الطويل يحمل قصصاً كثيرة عن التواصل الثقافي والتعددية الثقافية.
وعلى الرغم من كل تلك الاعتداءات والاحتلال الإسرائيلي، فإن مدينة غزة ما زالت تناضل لتبني كيانها الفلسطيني العربي المستقل عن الاحتلال والتدخلات الخارجية حتى هذه اللحظة.