هلا نيوز – شهباء شهاب
يخبرنا علم المعاني أن للمعنى وجهين رئيسيين، أحدهما هو معنى الدلالة، أو المعنى الحرفي الدقيق والضيق للمفردة اللغوية، الذي غالبا ما نجده في المعاجم اللغوية، والثاني هو المعنى الضمني، أو الذهني الذي يحيط بهذا المعنى، ويغلفه كغيمة ناعمة شفافة، لا تكاد ترى من فرط شفافيتها ورقتها. فالمعنى الحرفي للكلمة هو المعنى الشائع لها، الذي لا يتضمن أي ملاحق، أو أي مكملات ضمنية ذات صبغة عاطفية، أو ثقافية. ينشأ هذا المعنى نتيجة اتفاق اجتماعي ضمني بين أفراد المجتمع الواحد يتضمن إلصاقه بالمفردة اللغوية. أما المعنى الضمني للمفردة اللغوية فيشير للثقل العاطفي، الذي تتمتع به المفردة اللغوية، ولذلك فإن هذا الوجه من المعنى يسمى كذلك المعنى الذهني للمفردة اللغوية، وذلك لما تخلقه هذه المفردة في ذهن المتلقي من رؤى، وإيحاءات، وأخيلة إيجابية، أو سلبية.
وبهذا الشكل، فإن الوجه الضمني من المعنى يضم بين جنباته الإيحاءات الاجتماعية المختلفة للمفردة اللغوية وتداعياتها الثقافية في المجتمع. وقد تكون هذه الإيحاءات إيحاءات شخصية، أو ذاتية تنشأ من الأحكام الشخصية لكل فرد في المجتمع ومن تجاربه الخاصة، ثم تنتقل هذه الإيحاءات الشخصية إلى أفراد آخرين في المجتمع، ما يؤدي إلى انتشارها وشيوعها لاحقا. وهذا يعني أن الكلمات لا تستعمل دائما لنقل المعنى الحرفي الضيق، وإنما يمكن استخدامها للتعبير عن معاني ضمنية، قد لا نجدها في المعاجم اللغوية، لأنها مرتبطة بقيم وثقافة مجتمع ما. ويمكن تشبيه الكلمة هنا بشجرة وارفة الأغصان هي المعاني الحرفية للكلمة، ولهذه الشجرة كذلك ظلال مترامية الأطراف لترمز لظلال هذه المعاني.
القيم الاجتماعية
هذه الإيحاءات الاجتماعية المرافقة للمفردة اللغوية تنشأ عندما يكون المعنى الحرفي للمفردة اللغوية غير كاف لتلبية حاجات المجتمع، فيقوم المجتمع عندها باستخدام المفردات اللغوية الموجودة أصلا، بعد أن يضيف لها معاني أخرى جديدة. هذه الإضافات المستمرة ستجعل استخلاص المعنى الدقيق للمفردة اللغوية أكثر تعقيدا، لأن هذه المعاني المضافة لن تكون متاحة في القاموس اللغوي، وذلك لصعوبة حصرها وجمعها، ولذلك فإن التعرف على هذه المعاني المضافة وفهمها يتطلب فهم السياق اللغوي المصاحب لها، ويستلزم كذلك الإلمام بقيم المجتمع وتقاليده وأعرافه. فالمعنى الذهني يجعل المفردة اللغوية أكثر مطاطية، وأكثر قابلية للتأويلات والتفسيرات، مما هو الحال مع المعنى الحرفي لها، الذي يظل أكثر ثباتا، بحكم أنه يحظى بإجماع المجتمع حوله. وهذا يجعلنا نفهم أن الكلمات تحمل معاني يمكن وصفها بأنها معان أساسية، أو محورية، وهي معان يستخدمها الناس للإشارة لشيء، أو لعدة أشياء، أو للإشارة لفعل، أو صفة، أو فكرة، لكن استخدام المفردات اللغوية عبر الزمن يجعلها تكتسب معاني إضافية إيجابية، أو سلبية. فالمعنى يشبه الجلد البشري، الذي يتألف من طبقات متعددة، لكننا لا نرى على السطح، إلا الطبقة الخارجية المرئية للعين، أما الطبقات الأخرى فهي متوارية تحت هذه الطبقة الخارجية. وهذا يعني أن هذه الطبقات ليست منفصلة عن بعضها بعضا، بل هي ملتصقة ببعضها. فمثلا، المعنى الحرفي لكلمة (امرأة) هو أنثى الإنسان البالغة، وهذا هو المعنى الذي يطالعنا به القاموس العربي، لكن لهذه المفردة معنى آخر هو المعنى الذي ينطوي على أحكام وتفاعلات الناس مع هذه المفردة، وهكذا، فإن هذا المعنى لا يمكن العثور عليه في القاموس، وقد ينطوي هذا المعنى على إيحاءات شخصية، أو غير موضوعية لها علاقة بعواطف الناس وقيمهم. وقد يتأثر هذا المعنى بالتجارب الشخصية للفرد تجاه المفردة اللغوية وتجاه ما تشير إليه. فإذا كنت كمستخدم للغة لا تتشارك هذا المعنى مع مستخدم آخر، فإن هذا سيخلق إعاقة في التواصل بينكما، وقد تتجسد هذه الإعاقة كسوء فهم يقع بين المرسل للرسالة اللغوية والمتلقي لها، تحصل عندما لا يكون الاثنان متفقين على المعنى الذهني لمفردة معينة مثل مفردة (امرأة) أو مفردة (رجل).
فقد تلحق بمفردة (امرأة) صفات مفترضة مثل ضعيف، أو مكسور الجناح، أو باكية، أو جبانة، أو عاطفية، أو غير عقلانية. وبالطبع فإنه ليس من السهل البتة إقناع الناس بأن الصور النمطية المرافقة لكثير من الألفاظ اللغوية هي صور غير دقيقة وغير منصفة، وأن المجتمع الذكوري المهيمن هو الذي ألصقها بها، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن تدريب الأفراد على السعي إلى تجنب استخدام الصور النمطية السلبية، وعلى أن يحافظوا على رؤى لا تحمل ضغينة، أو أحكاما مسبقة على الآخرين.
طريقة الحياة المسماة بالرجولة هي من أعلى المراتب الأخلاقية التي يجتهد الفرد ذكرا كان، أو أنثى ليصل لها. إنها مرتبة سامية عالية من مراتب صقل النفس، وإعلاء شأنها، وتطويرها للوصول بها إلى قيم النبل من الصدق، والشهامة، والمروءة، والنخوة، والأمانة، والنزاهة، والشجاعة، والإقدام، والكرم، والتضحية، والعطاء، والإيثار، والكبرياء، وبالتالي فإن الرجولة، كموقف من الحياة، وكطريقة للعيش، لا تقتصر على الذكر وحده، وإنما تشمل الأنثى كذلك.
اللغة والمعنى العاطفي
وهكذا، سنرى أن هذا الوجه من المعنى يتباين من عصر لعصر، ومن مجتمع لمجتمع آخر، ومن ثقافة لأخرى. فمثلا في عصور ماضية، كانت صفة ارتداء أقراط الأذن صفة ملتصقة بالمرأة وحدها، بالإضافة لذلك يوجد الكثير من الصفات الأخرى الملتصقة بالمرأة في المجتمعات الغربية، التي تراها معظم المجتمعات العربية المحافظة طارئة، ولا تليق بالمرأة، مثل ارتداء البنطال، أو ملابس السباحة العارية. بل إن المعنى الذهني قد يتباين من فرد لفرد آخر، داخل المجتمع نفسه، بين الموالين للمرأة وحقوقها، وأصحاب التفكير الذكوري. وهذا يجعلنا نرى أن المعاني الذهنية للمفردة اللغوية قد تكون غير محددة، وذات نهايات مفتوحة، كما هو الحال مع أفكار الناس، وآرائهم، ومعتقداتهم، وهو ما يفرقها عن معاني القاموس الحرفية. فعندما يصف مجتمع ما أحدهم على أنه تربية امرأة، وليس تربية رجل، فالمجتمع لا يشير هنا للمعنى الحرفي لمفردتي (امرأة) و(رجل). وإنما يشير لما هو أبعد من ذلك، وهو المعنى العاطفي المتواري تحت المعنى الحرفي للمفردة اللغوية، أو لظلال المعاني المختبئة خلف هاتين المفردتين. فلكي نفهم المعنى المقصود، علينا أن نبحث عن المعنى الذهني لهاتين المفردتين (امرأة) و(رجل). فالايحاءات المرافقة لمفردة (امرأة) هي إيحاءات تشير لرقة المرأة، وليونتها، ومرونتها، بينما تشير مفردة (رجل) للصلابة، والبأس، والشدة. والإيحاءات المقصودة هنا لا تتعلق بالصفات الجسدية، وإنما بالصفات المعنوية. فالرقة والليونة والمرونة ليس المقصود منها الصفات الجسدية للمرأة، وإنما المقصود هو الصفات المعنوية المرتبطة بالتكوين النفسي للمرأة. وكذلك الحال بالنسبة لصفات الرجل وهي الصلابة والبأس والشدة، لا تشير للصفات الجسدية للرجل، وإنما لصفاته المعنوية التي لها علاقة بتكوينه النفسي، وطبيعته التي فطر عليها.
وهكذا يتضح أن المجتمع عندما يشير لشخص على أنه تربية امرأة، لا يريد بهذا المعنى الحرفي لمفردة (امرأة) وهي أنثى الإنسان البالغة. فنحن نستطيع العثور على ملايين الأمثلة الرائعة والمشرقة لرجال هم مثال للصلابة النفسية والشدة والبأس والعزم والقوة المعنوية على تحمل المسؤولية، والقيام بأعباء الحياة، ونكتشف أن من رباهم نساء وحيدات فقدن الزوج بالطلاق، أو الترمل، أو الهجر، أو التهرب من المسؤولية، هؤلاء النسوة لم يكنّ أقل شأنا من أقرانهم الرجال في تنشئة ذكور يحملون صفات الرجولة المعنوية، القادرة على مقارعة الحياة كل يوم. فالمعنى الذي يريده المجتمع عندما ينعت أحدهم على أنه تربية امرأة، هو أنه لم يتلق التربية التي تجعله رجلا يتسم بصفات الرجولة المعنوية السامية من نبل، وشهامة، ونخوة، ومروءة. وهذا يقودنا إلى أن ندرك أن الأنثى يمكنها أن تصبح رجلا، لو أرادت. معظم الناس يظن أن الرجل هو ذلك الكائن البشري البالغ، الذي يتميز بصفات جسدية معينة، وأن هذه الصفات هي التي تميزه عن الأنثى. وللمفارقة في العراق، وربما في مجتمعات أخرى، توصف المرأة بأنها رجل، أو بأنها أخت رجال، أو ابنة رجال، أو أنها شيخ عربي، أو بدوي، عندما تأتي بمواقف استثنائية مشرفة، ورائعة لا تضاهى.. فعندما توصف المرأة بهذه الصفات، فهذا لا يعني أنها أضحت امرأة مسترجلة، بل يعني أنها وصلت بنفسها إلى مرتبة روحية ونفسية جعلتها تتحلى بصفات الرجولة وقيمها السامية، فالرجولة ليست صفات، أو أعضاء جسدية، بل هي موقف من الحياة، أو هي طريقة حياة.
إن ما لا يعرفه معظم الناس أن هذه السلوكيات إن كانت تنم عن شيء، فإنها لا تنم إلا عن عدم النضج النفسي، وعلى أفعال طفولية، أو أفعال تفتقد للرصانة والاتزان النفسي لجذب الانتباه، أو لردم الشعور بالنقص. إن أحد أسباب تفشي حالة العنوسة في المجتمعات، هو سعي المرأة للعثور عن الرجل الحق، الذي لا يظن أن رجولته ستثلم، إذا تبادل الحب والاهتمام مع شريكته المرأة.
المراتب الأخلاقية
طريقة الحياة المسماة بالرجولة هي من أعلى المراتب الأخلاقية التي يجتهد الفرد ذكرا كان، أو أنثى ليصل لها. إنها مرتبة سامية عالية من مراتب صقل النفس، وإعلاء شأنها، وتطويرها للوصول بها إلى قيم النبل من الصدق، والشهامة، والمروءة، والنخوة، والأمانة، والنزاهة، والشجاعة، والإقدام، والكرم، والتضحية، والعطاء، والإيثار، والكبرياء، وبالتالي فإن الرجولة، كموقف من الحياة، وكطريقة للعيش، لا تقتصر على الذكر وحده، وإنما تشمل الأنثى كذلك. إن المجتمع هو من يقوم بتنشئة الصبية، أو صغار الذكور من خلال إرسال رسائل تتعلق بماهية الرجولة، لكن هذه الرسائل قد تكون مربكة ومحيرة، ما سيؤثر في حياتهم الشخصية، وكيف سيتعاملون مع المرأة، والعمل، والمجتمع، مما يسهم في خلق ما يسمى بالرجولة المزيفة، التي تنتج ظواهر سلبية، مثل الهيمنة، والتسلط والعدوانية، والنزوع نحو العنف، أو تعظيم العنف، أو إخفاء العواطف وقمعها، والاستخفاف بها، وعدم التعاطف مع الغير، والتحرش، والاعتداء الجنسي. الرجولة المزيفة هي المسؤولة عن إنتاج أفراد ومجتمعات تظن أن الرجل ما هو إلا السعي في النأي عن كل ما من شأنه الإشارة، أو التشبه بالأنثى. وهكذا تنشأ صورة الرجل على أنه ليس سوى ماكنة خلقت للعمل الشاق وللسيطرة والتسلط والقمع، وإن من المعيب على الرجل أن تكون له عاطفة، ومشاعر، وكأنه ليس بشرا من لحم، ودم وأعصاب، وأن عليه أن لا يجهر بهذه العواطف، أو يظهرها، لأنها تعتبر ضعفا، وخزيا لا يليق به، مما يؤدي إلى تدمير صحته النفسية والعقلية. فنرى في هذه المجتمعات عادة ما يلجأ الناس إلى استعمال تعابير من قبل (كن رجلا) أو (أنت لست سوى امرأة) أو (للأسف أنت تربية امرأة) أو ( يبكي كما تبكي المرأة) إلخ، لحض الذكور على التسلط والسيطرة، أو الفظاظة، أو العداء، أو العنف اللفظي، أو الجسدي مع الآخرين، أو مع المرأة.
إن ما لا يعرفه معظم الناس أن هذه السلوكيات إن كانت تنم عن شيء، فإنها لا تنم إلا عن عدم النضج النفسي، وعلى أفعال طفولية، أو أفعال تفتقد للرصانة والاتزان النفسي لجذب الانتباه، أو لردم الشعور بالنقص. إن أحد أسباب تفشي حالة العنوسة في المجتمعات، هو سعي المرأة للعثور عن الرجل الحق، الذي لا يظن أن رجولته ستثلم، إذا تبادل الحب والاهتمام مع شريكته المرأة. فمعظم الذكور لم يتعلموا كيفية الإفصاح عن مشاعرهم، وقد يكون هذا بسبب الضغط الذي يمارسه المجتمع على الذكور من أبنائه، ليدفعهم ليكونوا ذكورا غلاظا متحجري القلوب، لا تعرف العاطفة لهم سبيلا، ويعابون إن سقطت منهم دمعة شاردة هنا، أو هناك، أو خفقت قلوبهم يوما بنسمة محبة، بدلا من تربيتهم تربية صحية، واقعية ليكونوا، أولا وقبل كل شيء، بشرا لهم حاجات بشرية خلقوا بها. فالكثير من المجتمعات، شرقا وغربا ترى إن إظهار الذكر لعاطفته يصمه بالضعف والليونة، ويجعله يظهر بمظهر الأنثى، مما سينعكس لاحقا على صحته العقلية، ويؤثر في علاقته بزوجته وبناته وأخواته. فالرجولة لا تتحقق بأن يكون الذكر ديكتاتورا قاسيا، متسلطا، قامعا داخل عائلته، ناكرا لعواطفه البشرية، وكأنه ليس آدميا، من لحم ودم وأعصاب، يجرح ويهان، فيتوجع ويبكي، ويخدش ويدمى، فينزف دما. فالتعبير عن العاطفة للزوجة ليس خزيا، أو ضعفا، ولا يقلل من قيمته في نظرها، أو في نظر المجتمع من حوله، بل هو ذكاء، وقوة وثقة بالنفس، وتعبير عن الاتزان النفسي والعاطفي، الذي يتمتع به الرجل في سعيه لإنجاح العلاقة الزوجية، التي تقع قيادتها على عاتقه هو.
كاتبة من العراق