نشر معهد السياسة والمجتمع ورقة مسار تناقش التحديات والفرص في العلاقات الأردنية العراقية، ويناقش الكاتب يوسف إبراهيم فيها لماذا علينا العمل على تذليل العقبات، وكيفية بناء الثقة ومد الجسور بين البلدين، وماذا نفعل لتحسين العلاقات الاقتصادية البينية.
سعى الأردن في كل مراحل ما بعد العام 2003 أن يُبقي الجسور مفتوحة مع الدولة العراقية وألا تنقطع العلاقة التاريخية مع العراق وشعبه، فقد سمّى جلالة الملك عبد الله الثاني سعادة السفير أحمد اللوزي في 2005، وكان أول سفير عربي يدخل الى العراق في 2006، وكان الملك عبد الله الثاني أول زعيم عربي يزور العراق في العام 2008. كما لم تتوقف زيارات رؤساء الوزراء الأردنيين منذ زيارة رئيس الوزراء الأسبق عدنان بدران في عام 2005 وتوقيع العديد من الاتفاقيات الإطارية بين الجانبين.
تعامل الأردن مع وضع العراق المعقد خلال الأحداث الدامية (الفتنة الطائفية) 2005-2006 والذي أثّر سلبًا على كيفية التعامل مع الحالة العراقية الجديدة والتوازنات في الداخل العراقي وعلاقاته بمحيطه الإقليمي والدولي. كانت إحدى التجليات في تعامل السلطات أمنيّ الطابع مع القادمين العراقيين إلى الأردن -حتى من كبار الزوار العراقيين-، حيث ساد الاعتقاد لدى العراقيين أن تعامل السلطات الأردنية معهم كان على أسس طائفية وليس ذو اعتبارات أمنية بحتة. كانت إحدى نتائج تلك السياسية أن طلب العراق رسميًّا من الأردن تفعيل شرط الحصول على فيزا دخول على العراقيين القادمين إلى عمّان. ربما تجاوز العراقيون الأمر ولكنه مازال في الذاكرة. حدث ذلك في زمن كان الاقتتال الداخلي على أشدّه والفتنة الطائفية قد امتدت إلى ما بعد الحدود العراقية في حالة إقليمية معقدة ومنقسمة.
يشارك الأردن العراق في أقل طول حدود بين دول الجوار العراقي -حتى الكويت-، وقد يكون الأقل قدرة ومحدودية على الدخول إلى السوق العراقي والتصدير له لأسباب متعددة منها عدم وجود صناعات وطنية منافسة للمنتجات الإيرانية والتركية، إلا أن الأردن يبقى الدولة المجاورة الوحيدة التي لا تغير سياساتها السياسية والأمنية تجاه العراق بشكل متكرر كما تفعل دول الجوار الأخرى، لكن في المحصلة يقع البلدان في خضم حسابات إقليمية ودولية يصعب على الطرفين تجاوزها بسهولة.
في الأثناء لعب عدم الاستقرار السياسي والأمني في العراق والتجاذبات السياسية أيضًا عائقًا أمام تحسين العلاقات الأردنية العراقية على المستويين السياسي والاقتصادي خاصة في السنوات الأولى، مما أدى إلى خسارة الطرفين للكثير من الفرص التي كانت لتؤدي إلى تحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية للطرفين، فقد تعرض الأردن لعمليّة إرهابيّة انطلقت من العراق من تنظيم يقوده أردني. لم تتغير المعادلة كثيرًا اليوم، وهنا يبرز ما أطلق عليه رئيس الوزراء العراقي الأسبق “مشروع الشام الجديد” والذي يركز على جانب فكرة التكامل والتعاون الاقتصادي بمشاركة جمهورية مصر والذي يمكن أن يطور -إن نجح- الى تعاون وتحالف إستراتيجي يفتح الفرص لجميع الأطراف للاستفادة القصوى من الفرص الاقتصادية والمشاركة في لعب أدوار سياسية أكبر على المستوى الإقليمي.
رغم الانفتاح المبكر للدولة الأردنية على القوى السياسية العراقية، إلا أن الأردن أخذ منحنى تصاعدي منذ سنوات في التعامل ونسج العلاقات مع القوى العراقية المختلفة، ولاحقًا بدأ البرلمان الأردني في لعب أدوار إيجابية من خلال الزيارات المتتالية الى بغداد واستقبال الوفود البرلمانية العراقية، وقد ظهرت مؤشرات إيجابية من خلال اللقاءات المتعددة لوفد مجلس النواب مع كل القوى السياسية الرئيسية في بداية العام الحالي. وهو ما يدعم بشكل إيجابي الجهد الأردني في إنشاء علاقات متينة واستراتيجية لا تتغير بتغير شخص وخلفية رئيس الوزراء العراقي.
بلا شك تعاون الأردن مع العراق في الجانب الأمني بشكل واسع، وأخذ الأمر منذ 2014 مستوى عاليًا من التنسيق، وكان قد تم تدريب جهاز مكافحة الإرهاب العراقي -أكثر الأجهزة التي تجمع على كفاءتها أغلب الأطراف- في الأردن، والذي لعب أدوارًا رئيسية في الحرب ضد داعش. ولعب الأردن دور مهم في حفظ الحدود الأردنية العراقية في ظل غياب القوى الأمنية العراقية على الحدود من الطرف الآخر وهو ما كان مفيد للطرفين بطيعة الحال، وقد تطور التعاون إلى توقيع اتفاقية تعاون أمني في العام 2018 وصادق عليها البرلمان العراقي في العام 2019 بدون معارضة تذكر من الأطراف الفاعلة.
وعلى الرغم من مصادقة البرلمان العراقي على الاتفاقية الأمنية في 2019، وعلى طرف نقيض، عارضت بعض الأطراف السياسية وبشدة أنبوب النفط من نفس العام، وعادت المعارضة من بعض الأطراف في العام الحالي بعد الإعلان عن التوجه لبدء العمل على مشروع البصرة-العقبة. علمًا أن أول إعلان اتفاق كان في العام 2006 عند زيارة رئيس الوزراء الأردني آنذاك معروف البخيت. أضف على ذلك التململ العراقي من الاتفاقيات المختلفة مثل الأسعار التفضيلية لأسعار النفط وإعفاء 371 بضاعة أردنية من التعرفة الجمركية وغيرها.
لماذا على الأردن العمل على تذليل العقبات؟
إن سياسة الدولة الأردنية مستقرة ولديها مؤسسات بمرجعيات واضحة تستطيع أن تحرك الدفة باتجاه واضح وهو ما يعطي السياسة صبغة البعد الاستراتيجي. كما أن المصلحة العليا الأردنية في العراق تتوزع على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية. ورغم عمل الأردن، ومنذ عام 2005، عمل على إحداث اختراقات سياسية واقتصادية من خلال توسيع دائرة العلاقات السياسية وتوقيع الاتفاقيات مع الدولة العراقية كان من أهمها الربط الكهربائي وأنبوب النفط البصرة – العقبة وإنشاء منطقة حرة، تبقى هذه الإنجازات إما غير منفذة وبعيدة المنال مثل أنبوب النفط أو جزئية غير مكتملة -إلى الآن- مثل الربط الكهربائي والذي لن تتعدى مرحليًّا محافظة الأنبار بسبب ظروف تقنية وكلف تشغيل (غياب البعد الاستراتيجي والأمني). ورغم اللقاءات الوزارية العالية المستوى لم تجن الأردن الكثير الى الآن.
تتعامل الدولة الأردنية مع الدولة العراقية من خلال بوابة الحكومة العراقية المنتخبة وهو أمر بالضرورة مهم وأساسي؛ إلا أن فهم سياقات قيام كل حكومة وخارطة التحالفات التي قامت عليها وارتباطاتها الإقليمية أساسية لاختيار مفاتيح بناء العلاقات المتينة، حيث إن الحكومات العراقية مرجعاتها السياسية وارتباطاتها دائمًا ما تكون معقدة ومتعددة وتتغير بتغير من يجلس على سدة رئاسة الوزراء. حتى أن نوري المالكي وتحالفاته في فترة حكمه الأولى 2006 – 2010 يختلف اختلافًا جذريًّا عن نوري المالكي وتحالفاته في فترة حكمه الثانية 2010- 2014.
لم يشبك الأردن -قد يكون قرارًا عن وعي- علاقات مصلحية مع مختلف الأطراف الفاعلة، ولم يشتبك على المستوى الشعبي من خلال البعثات الدبلوماسية كما يفعل الجانب التركي والإيراني إلى الآن. نحن لا ندعو أن يكون الأردن لاعبًا سياسيًّا في العراق، ولكن يستطيع الأردن أن ينفتح على المجتمع العراقي وخاصة الجنوبي اجتماعيًّا حيث إن الجنوب الأردني هو الأقرب ثقافيًّا وفولكلوريًّا ولغويًّا، مقارنة بالسعودي والسوري. كما أن الكثير من العراقيين ما يزالون يستذكرون بالخير العائلة الهاشمية الحاكمة في العراق، وكانت الجدات العراقيات يذكرن العهد الهاشمي بخير من خلال قصصهم.
رسائل بناء الثقة ومد الجسور
لابد أن تسعى الدولة لإرسال عدة إشارات إيجابية وجلية تؤكد من خلالها أن موقفها من عراق ما بعد 2003 واضح وجلي، ولا تترك مكان للتأويل، فما زال الغالبية (الشيعية) من الشعب العراقي تتوجس من موقف الأردن حول النظام العراقي الحالي.
تفعيل مبادرة “رسالة عمان” التي رعاها الملك عبد الله الثاني من جديد باتجاه إظهار الوجه الحضاري والتعددي للأردن والرسالة التي يحملها الأردن تحت القيادة الهاشمية نسل آل البيت، في توحيد المسلمين من جميع المذاهب وقبول التعددية المذهبية والسياسية في العالم العربي والإسلامي. وأن تكون واحدة من الرافعات الأساسية للعلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأردن والعراق ودول العالم الإسلامي بالمجمل.
حدثت في حزيران 2014 واحدة من أكبر المجازر في عراق ما بعد 2003، والتي عرفت بمجزرة سبايكر، وذهب ضحيتها أكثر من 1500 عراقي في يوم واحد، وقد يكون من المهم سياسيًّا وإنسانيًّا الاعتراف بها من قبل وزارة الخارجية كجريمة ضد الإنسانية، حيث وصفت من قبل فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة لتعزيز المساءلة عن الجرائم المرتكبة من جانب داعش (يونيتاد) إنها من ” أبشع الجرائم اللاإنسانية التي يمكن للمرء أن يتصورها”.
بعد المجزرة بشهر تقريبًا، وفرت الأردن المكان لإقامة مؤتمر للمعارضة السنية العراقية -على الرغم من أن الأمور كانت ما تزال ضبابية في العراق- والذي ترك انطباعًا سلبيًّا لدى الأغلبية الشيعية العراقية في أن الموقف الرسمي الأردني ما زال ضد أو لم يحسم خياره بخصوص العملية السياسية في العراق. منذ ذلك الحين لم “توفر” الأردن المكان لإقامة هكذا مؤتمرات وخاصة من قبل الأشخاص المرتبطين في نظام ما قبل 2003 ومن المهم إبقاء هذه السياسة التي أضرت الأردن كثيرًا. لا يعني ذلك أن يتخلى الأردن عن سياسة الأبواب المفتوحة ولكن على أن تبقى فقط على المستوى الإنساني البحت.
وأخيرًا، يعي الفاعلون السياسيون في العراق قدرة الأردن ومكانتها من خلال شبكة العلاقات التي تمتلكها، على لعب أدوار إيجابية بين الجانب الغربي وبخصوص الأمريكي والجانب العراقي، والتي مكن البناء عليها كثيرًا في تمتين العلاقات الدبلوماسية والسياسية.
ماذا نفعل لتحسين العلاقات الاقتصادية البينية؟
بلغ حجم التبادل التجاري بين الأردن والعراق 707 مليون دينار بين كانون الثاني وتشرين الثاني 2022 على حسب المعلن وهي أرقام منخفضة جدًّا على الرغم من العديد من الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين. ورغم أن الأردن يعمل بشكل مكثف للعودة والدخول إلى السوق العراقي، يخشى المستثمرون الأردنيون العمل في العراق على المشاريع الكبيرة فقد خسر من قَبل مستثمر أردني واحد عشرات الملايين في عام 2014، وقد يكون من المهم ألا تكتفي الدولة في تذليل العقبات للمستثمرين الأردنيين؛ بل أن تتجاوز ذلك لأن تلعب دور ضامن لهم لحثهم وتشجيعهم على الانخراط في السوق العراقي، إذ يوفر الجانبان الإيراني والتركي الدعم الكبير لمستثمريهم ويسهلان لهم الطرق للاستثمار والانخراط في السوق العراقية الكبيرة من خلال الدعم المالي وشبكة العلاقات المتوفرة، وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين العراق وتركيا 20.6 مليار دولار في عام 2020، وحجم التبادل بين العراق وإيران في عام 2021 وصل إلى 10 مليارات دولار، قيمة الصادرات الإيرانية منهم أقل بقليل من 9 مليار.
ثمة جوانب كبيرة يمكن أن تحدث فرقًا إذ يستطيع الأردن في قسم الخدمات التعليمية والصحية وتكنولوجيا المعلومات بشكل خاص أن يلعب أدوارًا كبيرة إذا ما توفرت الإرادة، فالأردن هو من يتحدث اللغة العربية وليس الإيراني او التركي. كما أن الأردن متقدم في قطاع التكنولوجيا والخدمات ولديه بنية تحتية معرفية تتيح له التفوق على الجانب التركي إذا ما ربطنا عامل اللغة والجغرافيا.
إن قطاع التعليم الخاص أو الأهلي، مثلاً، كما يطلق عليه في العراق فيه مساحة واسعة للعمل وتقدم خدمات تعليمية مميزة، ويمكن أن يوفر استثمارًا ووظائف ذات دخل متوسط للموظف الأردني. كما أن القطاع الصحي في العراق يستطيع، بل يحتاج إلى طاقات إضافية تحسن الخدمات وتزيدها.
أمّا القطاع الصحي في العراق فهو متردٍّ، ما يجبر العراقيين للسفر إلى الخارج للحصول على العلاج والرعاية الصحية ويصرفون مبالغ طائلة وكان المركز العراقي الاقتصادي السياسي قد صرح في كانون الثاني أن العراقيين صرفوا أكثر من 700 مليون دولار على العلاج في الهند فقط خلال السنوات الثلاث الأخيرة. وقد يكون من المهم ذكر أن هناك الكثير من الشكاوى من الطرف العراقي عن صعوبات تواجههم بما يتعلق بالتسهيلات الممنوحة للحصول على الرعاية الصحية في الأردن. هكذا خسارة لا تؤدي فقط إلى الخسارة الاقتصادية من انخفاض السياحة العلاجية، ولكن أيضًا تحول دون تطوير هذا القطاع وخدماته مما يؤثر على تنافسية القطاع وسوء القطاع الصحي للأردنيين أيضًا.
* الاراء الواردة في المقالات تعبّر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي معهد السياسة والمجتمع
• مدير البرامج في مكتب مؤسسة فريدريش إيبرت في عمان