الخميس ٩- ٣- ٢٠٢٣
هلا نيوز – سهيل كيوان
في الثامن من آذار، تُطرح قضية حقوق المرأة، في مختلف الأمور الدنيوية، من الترشح إلى مجلس النواب أو الشعب ورئاسة البلدية، إلى حقوقها في العمل والمساواة في الراتب وغيرها.
وهنالك أمرٌ أكثر بساطة، وهو المصافحة، فهي تشغل حيِّزاً لا بأس به من نقاشاتنا الاجتماعية، وهذا يظهر في المناسبات.
قبل مدّة كنت قد دعيت إلى مناسبة ثقافية، ووقف عددٌ من المسؤولين لاستقبال المدعوّين، من بينهم سيّدتان، واحدة ترتدي اللباس الديني الذي يُظهرها كمسلمة محافظة، أما الثانية فقد كانت ترتدي ما يمكن تسميته اللباس الأوروبي، وبدون غطاء للرأس، وإلى جانبهما ثلاثة من الرِّجال بلباس أوروبي رسمي، الحُلَّة وربطة العنق.
كان جمهور الداخلين من الرجال يصافح الأساتذة بتلقائية، ثم يحتار بعضهم عند الوصول إلى السَّيدتين، هل يصافح واحدة ويمتنع عن الأخرى! أم يمتنع عن مصافحة كلتيهما درءاً للإحراج.
كذلك النساء الداخلات، بعضُهن لا يصافحن الرجال ويصافحن الامرأتين، أو يمتنعن عن مصافحة الجميع.
هل تليق مصافحة الرجالُ الرجالَ والامتناع عن مصافحة الامرأتين! ألا يبدو هذا إجراءً شكلياً ولا يعكس حقيقة الواقع والعلاقات الاجتماعية السّائدة!
المشكلة مع أولئك الذي يقرّرون مدّ أيديهم لمصافحة الجميع، غير آبهين بالاختلاف.
هكذا دخلَ كهلٌ، كان أستاذاً للسيدة المحجّبة من أيام الجامعة، لم يقدّر الموقف بدقّة، فمدّ يدَه للمصافحة، ولكنها تراجعت خطوة، واضعة يدها على صدرها رافضة يده الممدودة، رغم ترحيبها به مبتسمة: أهلاً وسهلاً، شرَّفتنا.
شعر الأستاذ بإحراج شديد واعتبرها فنسة لا يستحقها من طالبته النجيبة التي في سنّ أبنائه، ففارق السّن بينهما يصل إلى ثلاثة عقود، وقال لها وقد احمر وجهه: شو صايبك ولك! كنتِ إنسانة طبيعية ومتميّزة، هل وقعتِ على رأسك؟
المرأة السّافرة تصافح الجميع بتلقائية وبدون لفت نظر أحد، وكممارسةٍ بدهية معتادة عليها، تبتسم للداخلين، تستجيب لمن يمدُّ يدَه، تتبادل مع بعضهم الحديث بثقة كبيرة، بينما تحوّلت المُحجَّبة إلى بؤرة الاهتمام، وموضع النظرات التي ترصد تصرُّفها وردود فعل أولئك الذين يمدّون أيديهم فتمتنع عن مصافحتهم.
وصلتُ الطاولة التي جلس حولها عددٌ لا بأس به من المدعوّين، وما لبث أن أثير الموضوع للنقاش.
هل مصافحة الرجل للمرأة أو المرأة للرجل، حرام أم حلال! ومثل قضايا كثيرة أخرى فيها خلافات واجتهادات، بعضها يتّخذ من سيرة الرسول مرجعاً، فهو لم يصافح، والبعض لا يجد تحريماً في القرآن الكريم، وأن عمر بن الخطاب صافح، والمحرّمات معروفة ومذكورة بالتفصيل، فلماذا نضيف من جيوبنا تحريماً إضافياً! ويرى البعض أن الأمر يتعلّق بمدى قربى الدم بين المتصافحين، فلا تجوز إلا بين المحارم، وقال البعض إنها من المكروهات، ولكنها ليست محرّمة، ولكن يبقى الأمر متعلقاً بالنّية والهدف من هذه المصافحة، لكن هناك من يقول إنّ ملامسة الراحتين توقظ الفتنة، وهناك من يفتي بأن المصافحة تتعلق في سنِّ المتصافحين، فمصافحة عجوز ليست مثل مصافحة امرأة شابة أو كهلة، والعكس صحيح، مصافحة المُسن مثلاً وفارق السّن الكبير يُجيز، فيعلّق آخر ساخراً: أقسم أن هنالك مصافحة قد تعيد الشيخ إلى صباه.
وهناك من أخذته الحميّة على موقع المسؤولية وقال: من يأخذ على عاتقه الوقوف في موقع كهذا لاستقبال المدعوّين، لا يحقُّ له أن يُفشلَ أحداً مدَّ يده لمصافحته، سواء كان رجلاً أو امرأة، ولا حتى أحد خصومه، وإلا فهو في مكانه غير الصحيح.
هل يمكن للمصافحة أن تثير فتنة بالفعل! وهل المرأة والرّجل بهذا الضعف، إلى درجة أن المصافحة بينهما قد توصلهما إلى المعصية! وإذا كانا بهذا الضعف، أليس بهذا ما يجب أن يثير القلق! وكيف لامرأة أو رجل بهذه الدرجة من الهشاشة التي جعلت من المصافحة عملاً قد يؤدي إلى الفتنة أن يواجها الحياة في واقع مشتبك ويزداد اشتباكاً بين الجنسين، في التعليم والعمل والأسواق والسّفر، وحتى في الكوارث الطبيعية والحروب وغيرها.
هل هذا يلائم روح العصر! وهل هو من منطلق ديني وقناعة حقيقية، أم أنّه نهج اجتماعي وجدنا آباءنا وأمهاتنا عليه فتبعناه!
الآراء مختلفة، ولا إجماع حول الموضوع.
هناك من يبيح لضرورات اللياقة والذّوق، وعدم إحراج من مدّ يدّه للمصافحة، وهناك من يرى أنّ الامتناع يخفي أيديولوجيا توصل إلى التطرّف، ولكن هناك من لا يصافح من الجنسين بقناعة دينية وعادة اجتماعية بريئة موروثة، لا علاقة لها بالسياسة والأيدولوجيات، هكذا فعل جدّاتنا وأجدادنا، يضعون اليد على الصَّدر يرافق هذا اعتذار لفظي: معلش أنا على وضوء! وأما إذا جرت المصافحة يرافقها أيضاً تبريرٌ لفظي: إنت مثل أخوي، أو إنت مثل ابني، أو: بدي أصافحك والله يسامحني.
يختلف الأمر بين بلد وبلد آخر، وبين طائفة وأخرى، وحتى بين منطقة جغرافية وأخرى في البلد نفسه، في فلسطين مثلاً نرى أن الدروز يتجنّبون مصافحة المرأة للرجل بتشدُّد أكثر من الطوائف الأخرى، سوى قلّة نادرة.
تحمّست مرَّة لمصافحة سيدة مُسنّة من جنوب لبنان حلّت ضيفة عند أقرباء لي، بعد تردّد مدّت راحتها وقد لفّتها بمنديل أسود، وصافَحَت مع حائل دون ملامسة مباشرة.
معظم الأفراح في منطقة الجليل مختلطة، فيقف ذوو العروسين لاستقبال الضيوف، وتحدثُ الإحراجات نفسها، صافح أو لا تصافح.
في مناطق 48 يختلف الوضع عن الضفة الغربية وقطاع غزة لكون المدارس مختلطة بين الذكور والإناث في كل المراحل.
ويعتبر شمال فلسطين أقلَّ تشدُّداً في هذه القضية، رُبَّما يعودُ أحد الأسباب إلى الوجود المسيحي إلى جانب المسلمين في الشّمال أكثر من المناطق الأخرى، وتعلُّم كثيرين من المسلمات والمسلمين في مدراس أهلية تابعة لمختلف الطوائف المسيحية.
أما في منطقة المثلث، فالأكثرية تمتنع عن المصافحة، خصوصاً في العقود الأربعة الأخيرة واتساع نفوذ التيار الإسلامي، وهذا يختلف من بلدة إلى أخرى.
أما في النَّقب فالمصافحة بين الرجل والمرأة شبه معدومة، إلا النادر جداً جداً منها، لأنَّ رؤية المرأة عن قرب هي غير متاحة أساساً، إلا في نطاق عمل، مثل جهاز التعليم.
المصافحة تنقضُ الوضوء أم لا! هذا أيضاً غير محسوم، فالشّافعي ينقضه ولو كان من غير شهوة، وأبو حنيفة لا ينقضه بغضّ النَّظر عن النّية.
في النِّهاية، هي حُرّية شخصية يجب أن تُحترَم، فمن شاء أو شاءت صافح أو صافحت، ومن لم يشأ أو لم تشأ فهذا شأنُه وشأنها، من حق كل إنسان أن يقرّر نهج حياته وعلاقاته ومصافحاته، دون أن ينتقص هذا من مكانته أو حقّه في الوقوف في صف المستقبلين للضيوف والمدعوّين، فلنأخذ الأمور ببساطة، وليتقبل بعضنا بعضاً في الصورة التي اختارها كلٌ منا لنفسه.