يمكن القول عن الأمير عبد القادر الجزائري أنه سبق عصره، وأنه جسّد بشكل حقيقي في أقواله وأفعاله، ثقافة المنطقة في أبهى تجلياتها.
قارع الأمير عبد القادر الجزائري الفرنسيون لعقد من الزمن وقابل سياسة الأرض المحروقة بأخلاق متسامية وتسامح فريد.
في مثل هذه الأيام قبل 175 عاما، انتهى مشوار عبد القادر الجزائري في أرض المعركة ضد الغزاة الفرنسيين، إلا أن عطاءه الفكري والثقافي تواصل من دمشق.
وجد عبد القادر نفسه في ديسمبر من عام 1847 مجبرا على إلقاء السلاح وتسليم نفسه للفرنسيين الذين ضيقوا عليه الخناق وتفرق الناس من حوله، مقابل أن يُسمح له بالرحيل إلى الإسكندرية أو عكا.
لم تف فرنسا بوعودها للأمير الأسير وقامت بنفيه وأسرته إلى فرنسا. أقام أولا في طولون ثم في باو، ونقل ومن معه في نوفمبر 1848 إلى مدينة أمبوز حيث بقي حتى أكتوبر 1852.
في ذلك التاريخ أطلق الفرنسيون سراح عبد القادر الجزائري وتركوه إلى حال سبيله، فرحل إلى تركيا وأقام في مدينة بورصة، وفي عام 1855 انتقل للعيش في دمشق.
بعد أن أصبح السيف بعيدا عن متناول يده كما بلاده الجزائر، كرس نفسه للعلوم الإسلامية والفلسفة، وقام بتأليف أطروحة في الفلسفة ترجمت إلى الفرنسية في عام 1858، كما ألّف كتابا عن الحصان العربي.
عبد القدير الجزائري ولد بلدة القيطنة القريبة من مدينة معسكر على الغرب من وهران في 6 سبتمبر عام 1808، وكان والده محي الدين الحسني وجيها وشيخا في الطريقة الصوفية القادرية.
حفظ عبد القادر القرآن الكريم في طفولته وتدرب على الفروسية ودرس علوم الفقه واللغويات، وتلقى تعليما أفضل بكثير من أقرانه.
انطلق في عام 1825 إلى الحج مع والده، وارتحل بعد ذلك إلى دمشق وبغداد، وزار مراقد شهيرة منها مرقدي الشيخ الأكبر ابن عربي وعبد القادر الجيلاني.
وتقول بعض التقارير أنه أثناء مروره بمصر في طريق عودته إلى الجزائر، أعجب بالإصلاحات التي قام بها محمد علي في مصر. رجع عبد القادر الجزائري إلى بلاده قبل بضعة أشهر من وصول الفرنسيين الغزاة.
غزت فرنسا بجيوشها الجرارة الجزائر في عام 1830، وخضعت البلاد لهيمنة استعمارية فرنسية ثقيلة حلت محل هيمنة عثمانية اسمية.
في غضون عامين، أصبح عبد القادر أميرا بموالاة عدد من القبائل وبدأ ثورته ضد الفرنسيين. كان يجيد استخدام أسلوب حرب العصابات، الذي لجأ إليه بسبب الفارق الكبير في السلاح والعتاد مع الفرنسيين.
ولعقد من الزمان ، حتى عام 1842، حقق العديد من الانتصارات. وبين الحين والآخر كان يدخل في هدنة لا تدوم طويلا مع الفرنسيين ليسترد مقاتليه أنفاسهم،
كانت منطقة قتال عبد القادر الجزائري ضد الفرنسيين تتركز في القسم الغربي من الجزائر، حيث نجح في توحيد القبائل ضد الغزاة.
كان مقاتلا شريفا يتميز بروح الفروسية وبأخلاق متسامية ظهرت في مواقف شبيهة بتلك التي تميز بها صلاح الدين الأيوبي. ومن ذلك أنه في إحدى المرات أطلق سراح من اسرهم من الجنود الفرنسيين لسبب بسيط، لم لم لديه ما يكفي لإطعامهم.
خلال هذه الفترة، أظهر عبد القادر مهارة قيادية وسياسية وعسكرية كبيرة، وكان قائدا ناجحا قادرا على رص الصفوف حوله وكان يتميز بخطابة بليغة وقدرة على الإقناع. وكان صلب العزيمة والإيمان،
حقق الكثير من الانتصارات حتى عام 1842، إلا أن المارشال الفرنسي بوغود تمكن من إخماد الثورة. هذا الجنرال كان وقع مع عبد القار الجزائري في عام 1837 معاهدة طفنا التي اعترفت فيها باريس بسيطرته على نحو ثلثي أراضي البلاد وخاصة مناطقها الداخلية، إلا أن الفرنسيين نقضوا مجددا عهودهم وتوغلوا في الأراضي المحررة فتجددت المقاومة في 15 أكتوبر 1939.
أجبر عبد القادر الجزائري في نهاية المطاف على الاستسلام. تزايدت اعداد الجيوش الفرنسية بشكل كبير، ومارست القمع الوحشي ضد الجزائريين، وواجهتهم بسياسة الأرض المحروقة، فوجد عيد القادر الجزائري نفسه مضطرا للاستسلام في 21 ديسمبر من عام 1847.
حين نفي إلى فرنسا، أراد المستعمرون أن يظهروا لعبد القادر الجزائري وكانوا يعتبرونه بدويا متخلفا، قوتهم وجبروتهم فذهبوا به إلى مصانع الأسلحة وإلى ورش صب المدافع، على أمل أن يدخلوا الرعب واليأس إلى قلبه، إلا أن كل ما شاهده لم يبهره ولم يأبه له. لكن حين ذهبوا به على مطبعة حديثة، اندهش.. وقال متحدثا عنها: هذه ستغير وجه العالم!