عربي دولي – هلا نيوز
حرِمَت من رؤية ابنها 19 شهراً و17 يوما قبل أن يُسمح لها بلقائه لثماني دقائق، مكنته من إبلاغها بوصيته الأخيرة: “لا تبكِ يا أماه، كي لا يفرح الجلادون”.
إيران كانت مسرح مأساة هذه الأم الثكلى، أفسانة يوسفي، التي روتت تفاصيل لقائها بابنها الوحيد داخل السجن قبل أن يُعدم العام الماضي مع رفاقه.
وشهد عام 2024 إعدام السلطات الإيرانية لـ975 شخصاً، في “تصعيد مروّع” لتنفيذ عقوبة الإعدام كوسيلة “قمع سياسي” في البلاد، وفق تقرير لمنظمتين حقوقيتين.
أفسانة، ورغم مأساتها، قررت ألا تعتصم بالصمت، مؤكدة أن “شطب السلطات اسمه من قائمة الأحياء” لن يمنعها من إبقاء قضية ابنها، بشمان فاتحي، ورفاقه حيّة.
كان بشمان قد سافر إلى العراق ليعمل من أجل تأمين المال الكافي لعلاج والدته من مرض السرطان، الذي أصابها قبل 15 سنة، حسبما ذكرت والدته المقيمة في بلدتها في كردستان إيران.
وفي العراق، انضم بشمان إلى “جمعية الكادحين الثوريين” (كومله)، وهو حزب كردي إيراني مناهض للسلطات في طهران، ويهدف إلى الدفاع عن حقوق “الشعب الكردي في إيران”.
وتقول والدته إن بشمان شارك مع قوات البيشمركة في إقليم كردستان العراق في محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” خلال السنوات التي أعقبت اجتياحه لمناطق عراقية عدة.
أما عن تاريخ عودته إلى إيران مع ثلاثة من أصدقائه، فتقول إنها كانت عشية انطلاق التظاهرات الشعبية التي عمّت إيران بعد مقتل الفتاة الكردية، مهسا أميني، عام 2023، على يد قوات الأمن.
وفي إيران، اعتقلهم جهاز الاستخبارات والأمن الوطني “اطلاعات”، ليتم اقتيادهم إلى أحد السجون، وفق ما قالت أفسانة.
وأضافت أن عائلته، وبعد فقدان الاتصال به، سعت إلى معرفة مصيره، وتنقلت بين سجون ومعتقلات عدة دون أي نتيجة، قبل أن تُفرج السلطات عن مكان احتجازه.
فـ”بعد مرور 19 شهراً و17 يوماً على اعتقاله”، سُمح للأم بمقابلة ابنها، و”كان ذلك في بداية عام 2024″، تقول أفسانة.
واستعادت أفسانة تفاصيل اللقاء الأول والأخير، وقالت، والدموع تخنق صوتها: “كنت سعيدة لأنني سألتقي بولدي وأضمه إلى صدري مرة أخرى بعد طول غياب”.
وعند وصولها إلى السجن، أبلغها الأمن أن موعد الزيارة محدود، فلديها 8 دقائق فقط للقاء ابنها الوحيد.
“كان ابني قد تغيّر كثيراً، أصبح نحيفاً وعيناه غارقتان، يكسو الحزن العميق ملامحه. ضممته إلى صدري.. عذبوه كثيراً، رأيت آثار الضرب على ظهره ويديه، فبكيت كثيراً…”.
اللقاء الأخير.. لا تبك يا أماه
قال لوالدته، وهو يبتسم: “لا تبكِ يا أماه، واعلمي أن هذا هو اللقاء الأخير الذي سيجمعنا، لن يكون هناك لقاء آخر، لأنهم أبلغوني بأنهم سيعدموننا، أنا وأصدقائي الثلاثة. ألصقوا بنا تهمة العمالة والبغي، وأجبرونا على الاعتراف بأننا كنا نعمل مع الموساد الإسرائيلي والقوات الأميركية”.
وتتابع أفسانة، وهي تكفكف دموعها: “قد أوصاني بشمان ألا أبكي عندما يُعدم، وألا ألبس الأسود حداداً عليه، كي لا يفرح الجلادون برؤية دموعي”.
وبعد هذا اللقاء، لم ترَ أفسانة وحيدها مجدداً، بل حتى إنها لم تشهد إعدامه. وقالت: “مضت أيام وأسابيع حتى أدركت أنهم أعدموا ابني، لأنهم شطبوا اسمه من قائمة الأحياء”.
راجعت أفسانة الكثير من الدوائر والمؤسسات الحكومية في إيران “لاستلام” جثمان ولدها، لكن دون جدوى.
أرادت معرفة المكان الذي دُفنت فيه جثة وحيدها، لكن “إلى الآن لا أعلم أين جثمانه، وهل دُفن أم أُلقي به في أحد الأنهار؟”.
ولا تزال أفسانة تسعى وتراجع وتطالب السلطات الإيرانية بـ”استعادة جثمان” بشمان، الذي “أُعدم في ريعان شبابه”.
وتصرّ الأم الثكلى على دفن ابنها الوحيد، كي يزوره يوماً ما “ابنه الصغير، الذي هاجر مع أمه إلى ألمانيا”، ويستذكر والده.
وعن هذه القضية، قال عضو المكتب السياسي في حزب “كومله”، مولود كامياراني،، إن بشمان كان منتمياً للحزب، وسافر إلى إيران للقاء أعضاء من “التنظيمات السرية للحزب”.
وأضاف أن ثلاثة أشخاص آخرين، وهم محسن مظلوم، وفا آذربار، ومحمد فرامرزي، كانوا برفقة بشمان في إيران.
وقال كامياراني إن السلطات الإيرانية اعتقلتهم بسبب نشاطهم السياسي مع الأحزاب المعارضة.
وأضاف أن الأجهزة الأمنية “ألصقت بهم تهمة العمالة للموساد الإسرائيلي والقوات الأميركية”، وهي مجرد مزاعم لا أساس لها من الصحة، بل مجرد ذريعة اتخذتها السلطات لإعدامهم في يوم واحد، رمياً بالرصاص.
وتقول المنظمات الحقوقية إن السلطات الإيرانية تنفذ بعض عمليات الإعدام في إيران بتهم مبهمة، مثل “الإفساد في الأرض” و”التمرد”، ما يسمح باستهداف المعارضين.
وإحدى هذه التهم المبهمة كانت كفيلة بإعدام هدايت عبد الله بوره عام 2017، شقيق فرهاد عبد الله بوره، الذي كشف تفاصيل هذه القضية.
وقال فرهاد، المقيم حالياً في إقليم كردستان العراق، إن السلطات الإيرانية أعدمت شقيقه بتهمة “البغي”، وهي تهمة تُطلق على كل من يتعاون أو ينتمي إلى حزب معارض للنظام الإيراني.
وأضاف أن شقيقه لم يكن على اتصال بأي حزب سياسي، بل كان يعمل ميكانيكياً، لكن ذلك لم يمنع “النظام من اتهامه بقتل شخص مقرب من السلطات في المعركة التي نشبت في قريتهم”.
وأوضح أن شقيقه لم يكن في القرية حين اندلعت مواجهات بين القوات الإيرانية وقوات الحزب الديمقراطي الإيراني.
وذكر فرهاد أن السلطات أعدمت شقيقه رمياً بالرصاص بحضور أقارب الشخص الذي قُتل في المعركة بقرية “قرسقل” شمال غرب ايران قرب الحدود مع تركيا والعراق.
وقال: “تأكدنا من إعدامه بعدما شُطب اسمه من سجل الأحياء”، وكما حدث في قضية أفسانة وابنها، لم تسلم السلطات جثمان هدايت لذويه، الذين لا يعرفون موقع دفنه رغم سنوات من المحاولة.
وبحسب الناشط السياسي الإيراني، فرياد درودي، لا تسلم السلطات جثامين ضحايا الإعدام لذويهم، وهو ما حصل أيضاً مع صديقه حيدر قرباني.
فالسلطات أعدمت، في عام 2021، حيدر بتهمة “البغي” ومعاداة النظام الإيراني “شنقاً” قبل الفجر بساعة، و”هددوا” أهله وأقرباءه كي لا يقيموا له مأتماً وعزاء، وفق درودي.
وأضاف أن السلطات، وكالعادة، لم تسلم جثمان حيدر إلى أهله رغم المناشدات والمطالبات.
“جهنم آباد”
وذكر درودي أن السلطات الإيرانية خصصت مقبرة في ضواحي مدينة ورمي، وأطلقت عليها “جهنم آباد”، التي تعني “مكان الجهنميين”.
ويدفن في هذه المقبرة المعتقلون الذين يُعدمون لأسباب سياسية، وفق درودي، الذي أشار إلى أن السلطات تصب خرسانة إسمنتية على كثير من القبور لمنع الأهالي من إخراج رفات أحبائهم في حال علموا بموقع الدفن.
ومسلسل الإعدامات في إيران مستمر، وفي تصاعد، بحسب محمود أميري، مدير منظمة حقوق الإنسان الإيرانية، ومقرها في النرويج.
وقال أميري، إن منظمته رصدت 975 حالة إعدام نفذتها إيران في 2024، بارتفاع 17 بالمئة عن عام 2023، الذي شهد 834 حالة إعدام.
ولفت أميري إلى أن أغلب الحالات كانت تتعلق بجرائم الاتجار بالمخدرات ثم القتل العمد، حيث لا يستطيع القاتل دفع الدية عن نفسه، فيتعرض للإعدام.
وفي المقابل، أعدمت السلطات العام الماضي 10 معارضين سياسيين، بينهم 9 أكراد إيرانيين.
وقال إن السلطات نفذت عمليات إعدام كثيرة بعد حركة “المرأة، الحياة، الحرية” والمظاهرات الحاشدة التي عمّت مدناً إيرانية على خلفية مقتل مهسا أميني.
وشهدت السنوات الماضية حراكاً للمطالبة بوقف تنفيذ عقوبة الإعدام، أو حصرها بجرائم معينة.
ومنذ عام 2023، يقود سجناء في معتقلات إيرانية حراك “لا لعقوبة الإعدام أيام الثلاثاء”، حيث يضرب السجناء عن الطعام يوم الثلاثاء.
ويشارك في هذا الحراك الكثير من المعتقلين في عموم إيران، بحسب أميري، الذي قال إنها من أنشط الحركات “المناهضة لعقوبة الإعدام” في إيران، ما يمهد لبداية حراك جماهيري أوسع في المستقبل.
وتلجأ السلطات الإيرانية إلى تنفيذ عقوبة الإعدام “بشكل ممنهج كأداة للقمع” ضد المعارضين لها، بحسب أميري، الذي طالب المجتمع الدولي بالضغط على طهران “لكبح آلة القتل” في البلاد.
عبد الخالق سلطان