منوعات – هلا نيوز
كانت الريح تخترق معطفي الأسود الثقيل، وبرد يناير يلسع جيوبي الأنفية، حين شدتني رائحة شواء تفوح من بعيد.
الساعة تشير إلى العاشرة صباحا.
يكسو الجليد شوارع العاصمة واشنطن وأزقتها.
الأبيض يغطي كل شيء، عدا شاحنة على جانب الطريق نحو الكابيتول توشحت بصورة شطيرة لحم مع جبن ذائب.
وسط يافطة كبيرة كُتبت بالإنجليزية على الشاحنة، لمحتُ كلمة واحدة بالعربية: “حلال”.
“صباح الخير”، نطقتُها بلهجتي المصرية.
أطل برأسه من نافذة جانبية، ووجه أذنه نحوي، وقال متسائلا: ها؟
أعدت التحية نفسها، فانشرحت أسارير وجهه.
هلّل: “مصرية؟ أنا من الإسكندرية”.
إسكندرية – واشنطن درجة سياحية
قبل عامين ونيف، هبط أحمد محمد في مطار واشنطن دالاس الدولي.
الاسكندراني ذو الواحدة والأربعين سنة يحمل ليسانس في السياحة والفندقة من مصر.
عمل سنوات في بلده الأم، ثم في السعودية، ليقرر لاحقا متابعة دراسته للحصول على ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة “بوتوماك” بالعاصمة الأميركية.
وضعت الصدفة أحمد في طريق رجل مصري آخر من أبناء القاهرة، اسمه وليد وكنيته “بيلي”، يعيش هنا منذ سنوات طويلة.
تحول اللقاء العابر إلى صداقة استمرت إلى اليوم.
“بيلي” يمتلك عددا من شاحنات الطعام، المعروفة بالإنجليزية بـ”فود تراك”، وهي واحدة من أشهر معالم الحياة في المدن الأميركية.
حصل أحمد سريعا على فرصة للعمل على متن إحدى شاحنات “بيلي”.
شباك الشاحنة صغير الحجم كان نافذة كبيرة أطل منها أحمد على عوالم جديدة: فسيفساء من الأعراق واللغات والأديان والأجناس.
العمل الجديد لم يكن مجرد مصدر دخل مادي.
حسّن أحمد مستواه في اللغة الإنجليزية؛ يقول حتى “لهجة الرابرز صارت يسيرة الفهم علي”.
بالنسبة لأحمد، عمله على شاحنة طعام هو خطوة أولى على طريق تحقيق حلم يراوده منذ دهر من الزمن.
“أنا عاوز يبقى عندي مطعم مش فود تراك. بس واحدة واحدة”، هكذا لخص ابن الإسكندرية حلمه الكبير في كلمات بسيطة.
إسكندرية الأميركية!
في إسكندرية أخرى، تبعد نحو 7 أميال فقط عن وسط العاصمة واشنطن، دقت الساعة الرابعة، بعد ظهر يوم عمل طويل.
بدأ مصنع صغير للجعة يستقبل زبائنه.
على مقربة، صُفت شاحنة طعام تأخذ اسم حضارة أفريقية قديمة عُرفت باسم “كوش”.
رائحة فلافل تعدك بدفئ تتوق له في بردي الشتاء والغربة.
خرج من الشاحنة في زي طاهٍ باللون الأسود، على كتفه اليمنى خيط علم السودان، وعلى وجهه ابتسامة ترحاب عريضة.
علي عثمان ابن مدينة ود مدني السودانية.
ترك وطنه في ظروف لا تختلف كثيرا عن تلك التي يعيشها البلد الآن.
كان في 18 من عمره عندما كانت حرب أهلية تدور رحاها بين الشمال والجنوب.
عَلِمَ أن التجنيد الإجباري ينتظره. وكانت مشاركته في الحرب ضد الجنوب لا مفر منها، فقرر الرحيل.
إلى سوريا شد الرحال، وتبددت آماله بدراسة القانون.
اشتغل بأحد المطاعم هناك.
في أروقة المطبخ، عثر على كسرة من بيت تركه مكروها.
استرجع بين الأطباق والحلل ذكريات بسيطة سعيدة، كان فيها رفقة أمه بالمطبخ يحضّّران معا الطعام في رمضان.
ومضات أبقته قريبا وإن كان بعيدا.
التحق بمعهد لدراسة الطبخ، بنصيحة من رئيسه الشيف أبو جورج.
راوده حُلم جديد: مطعم خاص به!
حُلم لم ير علي أن سوريا الأرض الملائمة لتحقيقه، فآن وقت رحيل ثان!
مشوار مع الصدف
في إحدى الليالي، ذهب علي إلى مقهى للسودانيين في العاصمة السورية.
تعرف هناك على رجل سوداني آخر كان قادما من تايلاند.
لم يكن علي يعرف الكثير عن هذا البلد، وهو في بحث عن أرض جديدة، فطرح بشغف العديد من الأسئلة.
مر أسبوع.
وجد السوداني نفسه أمام السفارة التايلاندية في دمشق يطلب تأشيرة دخول. حصل عليها.
“عندي في جيبي 95 دولار وتذكرة ذهاب، ومابعرفش حاجة في تايلاند”، يتذكر.
على متن طائرة الخطوط الأردنية المتجهة إلى بانكوك تعرف علي على مجموعة من الشباب الليبيين.
لا يعرف علي في تايلاند أحدا، ولا أين ينزل، ولا ماذا ينتظره.
دلّه الليبيون على فندق اعتادوا الإقامة به، دعوه أن ينزل معهم، فقبل.
“رحت على الفندق، حطيت الشنط، نزلت تحت، ولعتلي سيكارة، بتفرج في الجماعة الأسيويين.. اشوف أتنين سُمر زيي شايلين أنبوبة غاز”.
– سلام عليكم.
– عليكم السلام.
– سوداني؟
– نعم، سوداني.
– من وين أنت؟
– يا أخي أنا جاي من سوريا.
– جاي تعمل شنو؟
– جاي أدور على شغل.
– تعال، تعال، روح معانا نعبي أنبوب الغاز ده.
دل السودانيون علي على المنطقة العربية في بانكوك، سوكومفيت.
هناك، تحصل على وظيفة طاه رئيس في مطعم يملكه مواطن كويتي.
14 عاما قضاها ابن ود مدني في تايلاند.
ذاع صيته كطاهٍ يقدم أكلات تقليدية بلمسة غير معهودة.
ليلة ليست كغيرها
كان طقس بانكوك رطبا كعادته، لكن تلك الليلة كانت غير عادية.
كان علي يسير رفقة صديق له في أحد شوارع المدينة المكتظة، عندما لمح وجها مألوفا: امرأة جنوب أفريقية يعرفها وزوجها التايلاندي.
اقترب ليلقي التحية، فعَرَّفَته على منْ معها، و”جيني”.
جيني أميركية تعيش وتعمل في تايلاند، ويبدو أن الحب من النظرة الأولى ليس دائما من نسج خيال الكُتاب.
“طبخت لها بامية عشان كده حبتني”، يقول علي ضاحكا.
رحيل ثالث
بلغت ليلى الرابعة من عمرها.
بدأت جيني وعلي يفكران في مستقبل ابنتهما.
اقترحت الأم الانتقال إلى موطنها الأصلي: الولايات المتحدة، حتى تتلقى ليلى تعليما جيدا.
علي في حيرة من أمره.
فهو، يملك الآن شركة للضيافة، وعمله على ما يرام. فكيف يتصرف؟
صفى علي كل شيء، وانتقل رفقة عائلته الصغيرة إلى أميركا.
هناك، تحصلت جيني على عمل في إحدى المنظمات في العاصمة واشنطن.
وتمكن علي بعد بحث طويل من العمل طباخا مساعدا بمطعم فرنسي في المدينة.
لكن: “انا عارف نفسي اني موهوب وعاوز اوصل الأكلات بتاعتي للناس”.
أنشأ علي شركته للضيافة التي حملت اسم ابنته ليلى.
وزع بطاقات للتعريف بالشركة في كل مكان. لم يتصل أحد.
قدم للمشاركة بخيم تقديم وبيع الطعام في أسواق المزارعين، التي تقام كل نهاية أسبوع.
قُوبل طلبه بالرفض أكثر من مرة.
تحدث إلى جيني: ما رأيك في أن أفتح مطعما؟!
كورونا
ضربت الجائحة العالم. أغلقت واشنطن كغيرها من المدن. تبددت آمال علي.
اضطر للعمل سائقا بإحدى شركات تشغيل سيارات الأجرة.
وبات اليأس عنوان تلك الأيام.
في يوم عادي، كان علي في طريقه لشراء مستلزمات المنزل، حين شدت انتباهه شاحنة للطعام مصفوفة في الجوار. لا أحد فيها.
كتب اسمه ورقم هاتفه على ورقة، وعلقها بماسحة الزجاج الأمامي، طالبا من صاحب الشاحنة الاتصال به.
صاحب الفوود تراك عراقي كان ينوي تشغيلها لكن عقبات أوقفته.
اقنعت جيني زوجها بشراء الحافلة، خاصة وأن الحياة بدأت تعود إلى طبيعتها في المدينة بنهاية 2022.
نَفَس طويل
سلسلة من الإجراءات القانونية واللوجستية وقائمة طويلة من التراخيص كانت في انتظار علي.
رخصة الأعمال التجارية، رخصة الطعام من إدارة الصحة العامة، رخصة بيع الطعام.
فحص الصحة والسلامة، شهادة الفحص الدوري.
تأمين على الشاحنة وتأمين على الطعام وتأمين للمسؤولية العامة لتغطية الأضرار والحوادث المحتملة.
تصريح موقف الشاحنة.
التسجيل للحصول على رقم تعريف دافع الضرائب الفيدرالي والمحلي.
تقديم الضرائب المناسبة التي تشمل ضريبة المبيعات والضرائب الأخرى المتعلقة بالأعمال التجارية.
حجز مطبخ تجاري لحفظ المكونات وتجهيز الأكلات.
“لو زول غيري ما لحوح وعنده طموح، كان استسلم.”، يقول الشيف علي.
حسب ما كشفه لي علي، تكلفة شراء الشاحنة وتجهيزها بالمعدات والأجهزة اللازمة تتراوح بين 50 إلى 70 ألف دولار.
أما التراخيص نفسها فلا تقل رسومها عن ألف دولار.
كوش فرايد تشيكن ساندويتش
بإمكان علي العمل أخيرا.
أمام مبنى تجاري، في منطقة تايسون كورنر، التي تبعد بحوالي 20 ميلا عن العاصمة واشنطن، صف علي شاحنته للطعام: “كوش”.
كان أول طلب يبيعه شطيرة الدجاج المقلي، التي منحها نكهة جديدة بإضافة مزيج محسوب بدقة من البهارات السودانية: كزبرة، كمون، ثوم، بابريكا…
“الاكل عجبهم، كنت فرحان شديد، إحساس لا يقاوم.”
على مدار ثلاث سنوات، تمكن علي من امتلاك وتشغيل شاحنتين الطعام: كوش 1، كوش 2.
بنى سمعة ممتازة، تعكسها تقييمات زبائنه على غوغل.
يقول إن وصفته للنجاح، هي جودة الأكل والنظافة والمثابرة، “باشتغل يوميا 13 او 14 ساعة، ما حقي لازم اتعب فيه.”
تذوقت فلافل أو طعمية “كوش”.
تختلف عن الطعمية المصرية. عجينتها من الحمص. لكن فيها لمسة خاصة.
“هذه لمسة أمي! فالطعمية أعملها بالطريقة التي تعلمتها من أمي الله يرحمها”، يقول علي.
الصيف الماضي، أطلق الشيف علي، بشراكة مع طاه مصري، شاحنة طعام ثالثة: بلو نايل أو النيل الأزرق.
تقدم بلو نايل للزبائن، شطائر “برجر” من لحم ضأن يعكف علي على فرمها وتشكيلها بنفسه.
أما حلمه الذي ظل يطارده لسنوات، فيبدو أنه سيرى النور أخيرا.
قبل أيام، وقع علي عقد إيجار محالّ داخل ساحة لبيع الأطعمة في قلب واشنطن.