هلا نيوز – مالك التريكي
حجب الاهتمام الإعلامي البالغ بوفاة إليزابيث الثانية عن الجمهور العالمي الشهر الماضي أنباء وفاة كثير من الأعلام. إذ غادر الدنيا في سبتمبر مبدعون من أمثال المخرج السويسري جان ـ لوك غودار، والمؤرخ الفرنسي بول فان، والروائية البريطانية هيلاري مانتيل، والممثلة اليونانية إيرين باباس.
والذي قد لا يعرف إيرين باباس من العرب ربما يكون شاهدها في النسخة الإنكليزية من فيلم الرسالة للمرحوم مصطفى العقاد، حيث أنها كانت صنوة منى واصف في أداء دور هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، كما كان أنتوني كوين صنو عبد الله غيث في دور حمزة بن عبد المطلب. إلا أن من يعرفونها لا بد أنهم ذاكرون تقمصها دور مانوسيس فانجليس في فيلم «زوربا اليوناني»، أو دور هيلانة هوميروس في فيلم «نساء طروادة»، وهيلانة كوستا غافراس في فيلم «زاد». وقد أطربني قول وزارة الثقافة اليونانية في نعيها إن «إيرين باباس كانت تجسد الجمال الإغريقي على شاشة السينما وخشبة المسرح». ذلك أنه قد اكتسحني منذ كنت صغيرا شعور غامر بأن هذه السيدة الدعجاء ذات الشعر الفاحم والوجه المليح المتوهج بوعد الأنوثة وطهر الأمومة في الآن ذاته إنما هي إحدى أبهى من خلق الله من النساء. أفروديت لقومها وفينوس للعالمين. كلاسيك حسن وصهيل جمال.
ما إن شرح لنا أستاذنا الجليل محمد جبلون في درس العربية أن «الغانية» هي المرأة التي يغنيها جمالها الرباني عن كيميائيات التطرية ومساحيق التجميل، حتى أشرقت أمامي فورا صورة «هند باباس». أشرقت بوجهها القروي الشامخ الممتنع على التبسّم إلا لماما. وجه زيتوني أصيل. متوسطيّ معتدل بين الأقاليم والمذاهب. وجه يجدر أن يكون عربيا أو أمازيغيا، لاتينيا أو غجريا. ليس من جمال الحضر الذي قصده أبو الطيب بقوله «حسن الحضارة مجلوب بتطرية»، أي بصنعة ومكياج. وإنما هو من جمال الفطرة الساذجة الذي تغزل به عندما قارن مميزا ومفضلا «وفي البداوة حسن غير مجلوب». لماذا غير…؟ لأنه حسن خالص. حسن كيانيّ محض مضيء في المحيّا يقوّمه ويتقوّم به. فأنّى لحسن جوهرانيّ فطرته الطبيعة الأولى أن تعرض له أدنى حاجة لما يؤتى به من خارج، ناهيك عما يجلب من بعيد.
بعض الأمريكيين ينعون على غودار ما يسمّونه لاسامية لمجرد أنه لم يكن يتهيب المجاهرة بتضامنه مع الفلسطينيين. لهذا سخطوا لما أسندت له جائزة الأوسكار عام 2010، ولو أنه أبى الذهاب لتسلّمها
ورغم أن هندا الإغريقية ذات الصوت الرخيم الكريم ظهرت في ستين فيلما وتألقت في أفلام هوليودية كبرى، فإن بي حنينا إلى دورها الباهر في فيلم «عرس الدم» الذي أخرجه المغربي سهيل بن بركة اقتباسا من مسرحية فريدريكو غارثيا لوركا. تقاسمت باباس البطولة مع لوران ترزييف وجميلة والعربي الدغمي ومحمد حبيستي ونعيمة المشرقي، متقمصة دور الأم الثكلى الجزعة، بعد فقد الابن أول، من بعاد ابنها الآخر الذي خطب بنت الأعداء. ولا يزال في ذاكرتي مشهد نظرتها المحزونة بتينك العينين الحوراوين النافذتين بوجدهما إلى صميم الوجدان. لا يزال في ذاكرتي لمعان لؤلؤ دمعة أمّ أبيّة، دمعة مترددة متمنّعة قد كادت وأوشكت، ولمّا تنسكب.
أما جان ـ لوك غودار، الذي آثر الرحيل لأنه لم يجد للبقاء في هذه الدنيا بأوجاعها وأمراضها المقعدة بقية من معنى، فليس له في عالم التأليف والإخراج السينمائي نظير أو شبيه. لقد كان بمثابة سارتر السينما، فيلسوفها الأعلى وفنانها الأبدع، بل إن علاقته بالسينما وبالنظام الرأسمالي السائد تقارب علاقة الشعراء الصعاليك بالعمود الشعري والعرف القبلي. بدأ حياته المهنية في الخمسينيات ناقدا في «كراسات السينما» الشهيرة. وكانت أولى كتاباته، عام 1950، في مجلة «السينما غازيت» التي لم تعمر طويلا، والتي خصها سارتر بمقال يمتدح فن السينما. كتابات وجيزة تتجلى فيها غزارة ثقافته الأدبية والتشكيلية، حيث تتنوع اقتباساته من ستندال وبلزاك وأراغون إلخ، وتضيء قبسات شغفه المتوقد. وعندما قبل خوض لعبة القاموس مع مجلة لونوفيل أوبسرفاتور عام 1987 فأبدى رأيه في فرنسا في حرف الفاء، وفي لوبين في حرف اللام، قال في حرف الميم «المونتاج: ثمة مشهد تصويري من قبل ومشهد من بعد، وبين المشهدين ثمة ناقل أو واصل، تلك هي السينما. نرى غنيا، ثم نرى فقيرا وتحصل المقاربة، فنقول: هذا ليس عدلا. فالعدل يأتي من المقاربة أو المقارنة. ومن موازنة أو ميزان بعدها. صميم فكرة المونتاج أنها ميزان العدالة»
ومعروف أن بعض الأمريكيين ينعون على غودار ما يسمّونه لاسامية لمجرد أنه لم يكن يتهيب المجاهرة بتضامنه مع الفلسطينيين. لهذا سخطوا لما أسندت له جائزة الأوسكار عام 2010، ولو أنه أبى الذهاب لتسلّمها. له عن فلسطين مقولات لعلّ هذه من أبلغها: «عام 1948 مشى الإسرائيليون على الماء نحو أرض الميعاد، ومشى الفلسطينيون على الماء نحو الغرق. لقطة ولقطة معاكسة (أي تقنية التصوير المعروفة بـ champ et contre-champ). مشهد وعكسه. هكذا يلتحق الشعب اليهودي بالخيال الروائي بينما يلتحق الشعب الفسلطيني بالشريط الوثائقي».