هلا نيوز – الدكتور مدى الفاتج
في الثاني والعشرين من شهر سبتمبر/أيلول الماضي أعلن عن وفاة الشابة الإيرانية مهسا أميني، بعد تعرضها للضرب والتعنيف من قبل «شرطة الأخلاق». وفق ما نشر، فإن سبب التوقيف كان أن أميني لم تكن ترتدي حجابها بشكل صحيح، وهو ما يجعلنا لا نملك إلا أن نتعاطف مع الشابة التي فقدت حياتها من دون مبرر.
خبر وفاة أميني جاب العالم، وتسبب في حالة سخط عارمة، لكن الأثر الكبير كان في الداخل الإيراني، حيث امتدت التظاهرات التي عمت أغلب المدن الإيرانية منددة ليس فقط بشرطة الأخلاق وتجاوزاتها، ولكن أيضاً بالنظام القمعي والراديكالي الذي يحكم البلاد.
لم تخف الدول الغربية دعمها للثوار وحماسها للانتفاضة، حماسا ليس بريئاً ولا يمكن فصله عن الرغبة المعلنة في تغيير النظام، الذي ظل يرفض التعاون مع «المجتمع الدولي» في ملف «الاتفاق النووي»، والذي، على الرغم مما يعانيه من أزمات، يصر على التمسك بأيديولوجيته التي ترى في الغرب تهديداً. قطع الإنترنت وتعطيل المواقع الاجتماعية لم يمنع القنوات العالمية من تغطية الأحداث، كانت الصورة تخبرنا أن التظاهرات نسائية بشكل كبير، وأنها مدعومة من نساء يتطلعن للحصول على حقوقهن وإلى العيش بكرامة. تناقل المقاطع وتكرارها عن حرق الحجاب وقص الشعر والرقص في الشارع كان يرمز إلى أن حقبة الحكم «الإسلامي» في طريقها للنهاية، وإلى أن الشعب يدعم تغيير النظام. تعزز هذا مع وجود مقاطع أخرى لثوار يحرقون صور خامنئي وغيره من رموز النظام السياسية والدينية. للصورة أثر وجداني عميق، يمكننا أن نتذكر هنا المشهد الشهير، الذي ما يزال عالقاً بالأذهان، لتمثال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وقد تجمعت حوله الجماهير الغاضبة لإسقاطه. لم تكن تلك الصورة التي جابت العالم مبشرة ببداية عهد جديد عفوية، كذلك كان الحال مع التغطيات الحماسية للانتفاضات التي شغلت العالم العربي، بداية العقد الماضي، والتي كانت تجد الكثير من التعاطف والدعم. سيحتاج الشباب العربي لسنوات طويلة قبل أن يتأكد أن دعم تلك الموجة من التغيير لم يكن لأجل عيون الشعوب، وأن احتواء الحراك العربي و»أيقنة» رموزه لم يكن يعود لقناعة الدول الأكثر تأثيراً بجدوى الديمقراطية، وهي الدول التي ظلت تدعم لعقود أنظمة الاستبداد، بقدر ما كان يعود للرغبة في استمرار السيطرة وتوجيه دفة الأحداث، بما يخدم مصالحها بعد أن تآكلت الأنظمة القديمة أو استنفدت أغراضها. ربما يكون الدعم الغربي مغرياً في البداية، فتوفير منصات إعلامية وخلق حالة جماعية من الحماس مهم لاستمرار جذوة الانتفاضة، لكن ما يجب وضعه في الاعتبار هو أن هذا الدعم لن يكون بلا مقابل، وأول مقابل يمكن توفيره هو القبول بالتفسير الليبرالي للأحداث، وتصويرها على أنها ثورة لنساء مقهورات ضد مفاهيم دينية/إسلامية. لن يفيد هنا الحديث عن تفرد المدرسة الشيعية، فالمتلقي الغربي لن يهتم لجدلياتنا المحلية حول الفروق بين العقيدتين السنية والشيعية، أو بين مدارس الإسلام السياسي العربية ونظيراتها الفارسية، فبالنسبة إليه كل ذلك هو مجرد «أوجه للإسلام». هكذا، ومع وجود فوارق لا تخفى، إلا أن ذلك المتلقي لن يرى في الدولة الإيرانية إلا نظاماً دينياً مشابهاً لحركة «طالبان»، وهو ما يترسخ أكثر بالمقارنة بين صورة النساء المعارضات للدولة في البلدين.
في العالم الإسلامي تنشط مجموعات تتفق مع المنطق الغربي اليميني الذي يرى في الحجاب رمزاً سياسياً، وجود هذه المجموعات مفيد للعاملين على تغطيات متحيزة للأحداث
بدءاً نقول إن الانطلاق من فكرة أن كل النساء محجبات، وأنهن مجبرات على ذلك في إيران هو منطلق خاطئ، لأنه يصور أميني وكأنها هي الوحيدة التي خالفت القانون، للتأكد من ذلك لا يحتاج المرء لأن يسافر إلى إيران، لكن يكفي أن يشاهد أي وثائقي عنها أو أي قناة على موقع «اليوتيوب» من التي تصور الشوارع بشكل عفوي وحينها نتأكد من أن كثيراً من الإيرانيات، خاصة الشابات، لا يرتدين العباءة أو الحجاب بشكله الكامل. هنا يبرز سؤال هو أنه إذا كان هذا هو الحال، فكيف حدثت هذه الحادثة، ولماذا واجهت أميني هذه النهاية الحزينة؟ الأمر يحتاج لكثير من البحث، لكنه يدفع للمقارنة مع حادثة مشابهة حدثت في السودان قبل عدة سنوات، إبان حكم الرئيس البشير، حينما قامت شرطة «النظام العام» بمعاقبة سيدة بسبب ارتدائها البنطلون. لحسن الحظ كان ذلك العقاب أخف بكثير مما تعرضت له أميني، فعلى الأقل لم تفقد تلك السيدة حياتها بسبب ذلك، لكن الحادثة خلّفت أصداء واسعة وصورت السودان، الذي كان معرضاً لحملات إعلامية سلبية، بصورة البلد الإسلامي الذي تجبر فيه النساء على ارتداء الحجاب. بشكل مشابه، يمكن لأي شخص قريب من المجتمع السوداني أن يؤكد أن تلك السيدة لم تكن الوحيدة التي ترتدي البنطلون، وأن أزياء نسائية مختلفة كانت شائعة، حتى في ظل وجود شرطة «النظام العام». المشكلة هي أن هذا النوع من الشرطة الأخلاقية كثيراً ما يرتكب تجاوزات، فحماية الأخلاق العامة أو الآداب أو اللبس المحتشم عبارات عامة، يمكن لأي مسؤول أو أي فرد أمن أن يفسرها كما يشاء، أو أن يستغل سلطته من أجل ابتزاز من يريد، إن كان فاسداً. مع هذا، فإن هناك ما يشبه الإجماع في السودان الآن على أن إلغاء شرطة الآداب العامة كان خطأً ترتب عليه ظهور كثير من المظاهر الاجتماعية الشاذة، وأن الأفضل هو إعادتها، لكن بإصلاح كبير وبتحديد دقيق لنطاق عملها. الإسقاط على الحالة السودانية ليس بلا أسباب، ففي السودان أيضاً وجد «الثوار» دعماً مادياً وإعلامياً كبيراً، لدرجة وجود سفراء ودبلوماسيين غربيين في ساحة الاعتصام، لكن ثمن ذلك كان حرف ذلك الحراك عن مساره وجعله يُقرأ، لا على كونه انتفاضة مطالبة بحرية أكثر، وأوضاع أفضل، ولكن على أساس كونه ثورة ضد الإسلام وأحكامه، وكأن المشكلة لم تكن مع الحزب «الإسلامي» الحاكم، وإنما مع الدين نفسه، وهو ما خدمته صورة الناشطات اليساريات غير المحجبات اللواتي أتيحت لهن الفرصة، واحتكرن الحديث باسم «الثورة» ومطالبها.
سبق إدوارد سعيد إلى تفصيل ذلك في كتبه عن «الاستشراق» و»تغطية الإسلام» حينما تطرق لتوظيف الغرب للصورة واستخدامه للإعلام والدعاية لخدمة مشاريعه. في إيران اليوم لن يكون من المصادفة أن تخدم المقاطع المتداولة السردية الغربية اليمينية التي تربط بين الحجاب والقهر، والتي ترى في المحجبات مجرد ضحايا، إما لقهر اجتماعي يفرض فيه الأب أو الزوج أو الأخ الحجاب على عائلته، أو لقهر سياسي، بسبب أنهن وجدن في بيئات يفرض فيها الحجاب. مستفيدة من مثل هذه الصور سوف تجد كثير من الأنظمة الأوروبية منعها للحجاب مبرراً، أما إذا كانت هنالك أصوات نسائية لمسلمات أوروبيات يرفضن خلع الحجاب، حتى إن أدى ذلك للتمييز ضدهن أو منعهن من التوظيف، فإنه سيتم التقليل من شأنها، واعتبار أن أولئك ما زلن يعانين من عقدة نقص تجعلهن يفضلن أن يكن خاضعات. ليس فقط في أوروبا، ولكن في العالم الإسلامي أيضاً، ينشط كثير من المجموعات التي تربط بين الحجاب والقهر، أو التي تتفق مع المنطق الغربي اليميني الذي يرى في الحجاب رمزاً سياسياً. وجود هذه المجموعات مفيد للعاملين على تغطيات متحيزة للأحداث.
كاتب سوداني