مقالات واراء – هلا سهيل كيوان
يقول المثل: من يده في النّار ليس كمن يدُه في الماء»، و»اللي بياكل العصيّ مِش مثل اللّي بعدّها» هذا في حالات التعرّض لعنف وأذى، وقالوا كذلك بصورة ألطف «الرّقص على القاعدين هويّن». وقال ابن خلدون «الناس في السّكينة سواء، فإذا جاءت المحن تباينوا».
في الشّدائد تتبخّر التنظيرات ويبقى الواقع الصّلب الذي يمتحن أمزجة الناس ومعادنهم، وحقيقتهم.
ليس من حقِك أن تزايد على المتورّط في مصيبة أو مأزق مؤلم، وخصوصاً عندما يصل الأمر إلى الموت والحياة، بينما أنت تنعم مع أبناء أسرتك قبالة شاشة التلفاز.
ليس من حقّك أن تسدي النصائح الوطنية لمن تتربّص بهم مصائد الموت في كل خطوة، ووراء كل جدار وشجرة، وتحت كلِّ سقف، وتملأ أنوفهم رائحة التراب والغبار والبارود والدّماء والموت، ولا يسمعون سوى هدير محرّكات الدّبابات والجرافات والطائرات المنقضة والانفجارات المرعبة، التي تحوّل الديار إلى ركامٍ، وفوق كل هذا الجوع الذي بات يهدّد شرائح واسعة من المجتمع في قطاع غزة.
بعد أشهر من الحرب وما بات العالم كله يعرفه ويراه من جرائم ضد الإنسانية، واستهتار بكل القوانين التي أوجدها البشر عبر تاريخهم، تظهر حسابات لأفراد من داخل قطاع غزة، يطلب أصحابها تبرّعات لهدف محدّد، هو جمع تكلفة الخروج من قطاع غزة، وهو عبارة عن رابط يظهر فيه اسم صاحب الطلب!
الخروج من قطاع غزّة ليس متاحاً إلا من خلال معاملات خاصّة، ينفذّها وكلاء لشركة مصرية، وفي الواقع هو استغلال لهؤلاء الذين يرغبون في الخروج من منطقة لم يبق فيها مكانٌ آمن، وهي تكلفة لا تستطيعها سوى شريحة صغيرة من المجتمع، إذ إنّ تكلفة التنسيق للفرد البالغ هي خمسة آلاف دولار وللطفل ألفان وخمسمائة، ويوجد تسعيرة خاصة للفرد المستعجل عشرة آلاف دولار، وتستغرق الحالة العادية للتنسيق من ثلاثة أسابيع حتى شهر.
ويقال إنّ الدخل اليومي لشركة التنسيق المصرية (هلا) يصل إلى مليون دولار.
سعى الاحتلال إلى تحويل قطاع غزّة إلى مكانٍ غير صالح للعيش بهدف معلن، هو تقليل أعداد الفلسطينيين بين النهر والبحر.
هنالك من هاجروا، طامعين بالاستقرار والأمن، إضافة إلى محاولات لتحقيق الذّات في دول متقدّمة بسبب ضيق الآفاق في وطنهم، وهذه الرّغبة في الرحيل لا تلغي حبّهم لبلدهم، وهناك من هاجروا أو يريدون الهجرة لإنقاذ أرواحهم أمام ما يجري أمامهم من جرائم إبادة عرقية.
أكثر فئات الشّعب تعيش تحت خطّ الفقر، ولا تقدر على تكاليف الخروج سوى نسبة قليلة، فالقضية لن تتوقف عند الخروج من القطاع، بل إلى أين وكيف ستعيش وتدبّر أمور أسرتك في البلد الجديد الذي تريد السفر إليه!
أحد الأصدقاء شعر بالحرج، إذ طلب منه أحد الشبان نشر رابط للتبرّع لهذا الغرض، وسألني ما العمل؟ ألا يعتبر هذا النشر تشجيعاً للهجرة وتنفيذاً لرغبة الاحتلال! ولكن في الوقت ذاته، ماذا ستشعر لو أنّ من طلب هذه المساعدة منك لم يستطع الخروج، وحدث له أو لأبناء أسرته مكروه! ألن تشعر بتأنيب ضمير، وكيف ستحمل عبء الشّعور بأنّك لم تَمْدد له يد العون للخروج من هذه المحرقة!
وأضاف هذا الصديق: «لقد نشّر أحدهم إعلاناً مشابهاً بين أبناء الجالية حيث أعيش في إحدى الولايات الأمريكية، وجَمعوا له مبلغاً محترماً مكّنه من الخروج من القطاع مع أسرته، ولكن كثيرين صاروا يتساءلون: «حسناً، لقد خرجت أسرة أخرى من القطاع، ماذا مع المليونين ومئتي ألف الذين بقوا هناك»؟!
لم يطل الأمر حتى تعرّضتُ للموقف نفسه، فقد توجّه لي أكثر من شاب بنشر رابط يدعو للتبرع للهدف نفسه، الخروج من القطاع!
إضافة للاحتلال وجرائمه، هنالك استغلالُ وجشعُ بعض التّجار من أغنياء الحروب، كذلك عصابات الإجرام التي نشأت في أجواء الفوضى التي يعمل الاحتلال وعملاؤه على نشرها، وعقليات تسعى للثارات القديمة في هذه الظروف، لتسهم في نشر اليأس والإحباط، ناهيك عن الأخبار التشاؤمية بصدد اتفاق وقف إطلاق النار.
يزيد من الإحباط العجز والتواطؤ الذي يبديه العالم أمام البلطجة الإسرائيلية المدعومة أمريكياً، وما اغتيال أعضاء من بعثة المطبخ العالمي سوى برهان إضافي على نهج الاستهتار بالقوانين الدولية وحتى بالاتفاقات والتعهدات التي يبرمها الاحتلال نفسه.
لقد سارعوا للاعتراف بأنّ ما حدث مع بعثة المطبخ هو خطأ، وطبعاً لو أن القتلى من المدنيين الفلسطينيين فقط وليس من الأجانب، لمرَّ الخبر دون أن يلفت انتباه أحد، وسيكتفي الاحتلال بإعلان عن قتل «إرهابيين».
الحياة في مراكز الإيواء تشكل تحدياً إضافياً للناس، في المدارس يعيش في كلّ غرفة عشرات من البشر، الرجال منفصلون عن النساء، يسمح للأسرة بالاجتماع على الإفطار، ثم يعودون إلى غرفهم، وإذا احتجت الحمّام ليلاً ستضطر إلى المرور فوق وبين العشرات ممن يحاولون النّوم ولو لمدة قليلة.
ساحات المدارس مضاءة بالكشّافات بأمر من الاحتلال، وذلك كي يكون كل ما يدور فيها مكشوفاً لطائرات المراقبة الزّنانة.
إضافة إلى هذا أن المستقبل أمام جيل الشّباب يبدو قاتماً.
لا ألوم شخصاً قرّر الفرار بروحه وزوجته وأطفاله خارج هذا الجحيم! كذلك ليس من الإنصاف أن يخرج القادرون مالياً من الوطن، ويتركوا الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم! ولكنّها كما يبدو قوانين الحياة.
سواء شئنا أم أبينا، فإن في كلّ شعب نماذج بشرية مختلفة ومتعدّدة، حتى في الأسرة الواحدة قد يختلف بعض أفرادها بعضهم عن بعض في قدراتهم وتفكيرهم وعاطفتهم.
الفئات الواسعة وهي الأكثرية السّاحقة التي تعلن، لن نخرج من قطاع غزّة، ولن نغادر بلادنا إلا إلى باطن الأرض، وهذه هي الأصوات الغالبة التي تدعو إلى الصمود والبقاء محتسبة ومعتبرة أن الحذر لا يمنع القدَر، و»قُل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا» فلا تملك أمام هؤلاء إلا أن تنحني احتراماً وتقديراً.
هناك من فقدوا أعزّ ما يملكون من أزواج أو أبناء أو آباء وبيوت وأملاك، ويعتبرون أن هذا مهر للوطن، ويصرّون على التشبّث فيه.
وكي نكون واقعيين، فإن الظّروف الاقتصادية لكلّ فردٍ وفردٍ أو لكلِّ ربِّ أسرة تؤثر إلى حدٍّ كبير على قرار البقاء أو الخروج من الوطن، البعض يريد الخروج مؤقّتاً وسيعود بعد توقّف الحرب، ومنهم الفقراء الذين لا يملكون المال للخروج حتى ولو أرادوا ذلك، ومنهم من يملك المال، ورغم ذلك فهو يؤمن بقضيّته، ويصر على التمسّك في بلده، وهناك من لا يملكون مالاً ولا يرغبون في الخروج وهم الأكثرية، ويرون في بقائهم في وطنهم انتصاراً مهما كان شكل هذا الوطن.