بالترحاب وبمياه الشرب وبعض الأغطية والاحتياجات الأساسية، وقف الثلاثيني محمد أبو رجيلة يستقبل وفود النازحين من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، وذلك على غرار العشرات من شباب مدينة خان يونس الذين اصطفوا على جانبي شارع صلاح الدين للترحاب والمساعدة.
كان لـ “فزعة الشهامة” حسبما وصفها محمد، أثرها الكبير في نفوس النازحين، وغالبيتهم من النساء والأطفال، بعد رحلة شاقة سيرا على الأقدام، تتراوح بين 15 و30 كيلومترا، حيث تجبرهم قوات الاحتلال الإسرائيلية على عدم استخدام أي وسيلة نقل في هذه الرحلة القسرية.
وفي حديثه للجزيرة نت، قال أبو رجيلة إن “فزعة الكرامة والشهامة لم تكن بترتيب مسبق، وإنما بدافع من النخوة والكرامة لشباب نشامى، وبينهم نازحون، خاضوا تجربة النزوح والتشرد، ويشعرون بنفس الألم والقهر، لأناس يجبرون على ترك منازلهم وممتلكاتهم، وعلى النزوح مضطرين بملابسهم فقط”.
ترحيب وتكاتف
أبو رجيلة نفسه نازح مع أسرته المكونة من 7 أفراد، من منزلهم المتاخم للسياج الأمني الإسرائيلي في بلدة خزاعة شرق مدينة خان يونس، وهي تجربة اعتادت عليها هذه الأسرة في كل الحروب السابقة، مضيفا أن “مشاهد التكاتف ليست غريبة علينا هنا في غزة، إنها جزء أساسي من الانتماء لهذه الأرض ولفلسطين”.
وشهدت الأيام الماضية حركة نشطة لنازحين من مدينة غزة وبلدات شمال القطاع إلى المحافظة الوسطى ومدينتي رفح وخان يونس في الجنوب، وذلك على وقع الجرائم المروعة التي ترتكبها قوات الاحتلال، وزادت حدة ودموية مع التوغل البري.
وتقدر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أن 780 ألف نازح لجؤوا إلى مراكز الإيواء في المدارس التابعة لها، والتي فاضت بمن فيها، مما دفع آلافا آخرين إلى فتح مدارس حكومية والإقامة فيها من دون أي مقومات، فضلا عن الاكتظاظ داخل منازل الأقارب والأصدقاء.
ووثق أبو رجيلة -وهو صانع محتوى- فزعة الاستقبال للنازحين بمقطع فيديو لاقي انتشارا وإعجابا، وساهم في توافد أعداد من الشباب المبادرين للمشاركة في استقبال النازحين والترحيب بهم، والتخفيف عنهم.
رحلة عذاب ورعب
رحلة النزوح الشاقة يصفها النازح محمد الكفارنة بأنها “رحلة عذاب ورعب” حيث وصل مع العشرات من أفراد عائلته الممتدة، وهي كبرى العائلات في بلدة بيت حانون شمال القطاع، إلى مدرسة الدوحة الحكومية بمدينة رفح، وقضوا ليلتهم من دون مياه أو طعام أو فراش وأغطية للنوم.
وبرفقة آخرين من عائلات أخرى من مدينة غزة وشمالها، يقول الكفارنة للجزيرة نت إنهم قطعوا مسافة تزيد على 20 كيلومترا سيرا على الأقدام، تحيط بهم دبابات الاحتلال وآلياته، والقناصة يتمركزون على أسطح البنايات المرتفعة، بينما الطيران الحربي يحلق في الأجواء، ويبث الخوف والإرهاب.
ولم يتخلص الكفارنة من تعب الطريق وقهر البعد عن منزله وأرضه الزراعية، لكنه يرى في حفاوة الاستقبال من “أهلنا بالجنوب مما يخفف من المعاناة، كلنا أهل ومصابنا واحد”.
وعائلة الكفارنة اعتادت في كل الحروب الإسرائيلية وجولات التصعيد السابقة أن يكون لها نصيب في “فاتورة الدم والدمار” كغيرها من عائلات بلدة بيت حانون، التي تلقت أعنف الغارات الجوية الإسرائيلية منذ اللحظات الأولى في السابع من الشهر الماضي. كما أن هذه البلدة أحد محاور رئيسية توغلت منها القوات الإسرائيلية برا.
واضطر الكفارنة إلى النزوح أولا نحو مدرسة تابعة للأونروا في مخيم جباليا للاجئين، ومع اشتداد حدة الغارات الجوية، والإنذارات الإسرائيلية المتلاحقة لسكان شمال القطاع بالنزوح لما بعد وادي غزة جنوبا، قرر وعائلته النزوح إلى مدينة رفح، وهي المرة الأولى التي يقيم بها خارج مناطق شمال القطاع.
ولا تتولى “الأونروا” المسؤولية عن النازحين بالمدارس الحكومية، ويقول مدرس في مدرسة الدوحة -فضّل عدم ذكر اسمه- إن هناك متطوعين بادروا لتوفير كميات من المياه والطعام والأغطية للنازحين.
كانت أم مصطفى شبير وأسرتها، وأسر أخرى من أقاربها، أكثر حظا من الكفارنة وآلاف آخرين ممن لم يجدوا لهم مكانا سوى المدارس ومراكز الإيواء، وتقول للجزيرة نت “عندما أتابع أحوال النازحين في المدارس أحمد الله على نعمته، بأننا نقيم في شقة”.
مبكرا وفي اليوم الأول الذي أنذر به الجيش الإسرائيلي سكان شمال القطاع بالنزوح جنوبا، نزحت أم مصطفى بأسرتها (11 فردا) ومعهم 9 أفراد آخرين من أقاربها، ولجؤوا إلى منزل زميل لابنتها في العمل، بمدينة رفح.
ولا تتخيل أم مصطفى حالها لو اضطرت إلى النزوح في مركز إيواء، بزوجها المريض ويعاني ضمورا بالمخ ولا يستطيع الاعتماد على نفسه، وبرفقة بناتها السبع وولديها.
وقبيل نزوحها من منطقة الصفطاوي شمال مدينة غزة، استقبلت أم مصطفى امرأة نازحة من بلدة بيت حانون مع أبنائها الثلاثة، من دون سابق معرفة، مضيفة “منزلي كبير، ولو كان معها 100 آخرون كنت سأفتح لهم الأبواب، فنحن في أزمة ومعها تظهر معادن الناس”.
وتقدر أم مصطفى لزميل ابنتها، عصام وشقيقه حمودة، ويقيمان في منزل عائلي مؤلف من 3 طوابق، أنهما أفرغا شقتيهما، وأقاما مع أسرتيهما في الطابق الأرضي، فضلا عن إمدادهم باحتياجاتهم من المياه والأغطية والفراش.
وتختتم بالقول “عاملونا كأننا أهل وعشرة عمر، ولا نشعر معهم بالغربة، رغم قساوة النزوح عن منازلنا، نحن في جنة مقارنة بمعاناة النازحين بالمدارس والمستشفيات”.