معزوفة موسيقية يدندنها النحل بين أذنيه بلا جزع، منتقلا عن يمينه وشماله، وإذا ضعف عوده تراه يجلس بين أكتافه، أو يصعد على رأسه، فحالة من الألفة نشأت على مدار ربع قرن، ما بين أسراب النحل ومربيها محمد ربابعة (50) خريفا، حتى أصبحت لدغاتها قُبلات على حد وصفه.
صدفة هي ما أدخلت الربابعة إلى عالم تربية النحل، عندما زاره بمزرعته في منطقة الأغوار قبل أكثر من ثلاثين عاما مربي نحل طالبا منه أن يضع صناديق النحل داخل مزرعته للاستفادة من موسم الحمضيات لديه، فهو يتغذى على أزهار أشجار الليمون، والبرتقال.
يقول ربابعة:” بعد التجربة البسيطة وقعت بحب تربية النحل، وتحول الشغف إلى مشروع خاص، بالمرحلة الأولى قمت بشراء عدد بسيط من الخلايا وبمتابعة مباشرة من قبل أحد المربين، واستطعت التوسع بالمشروع بعد حصولي على منحة تمويلية من المؤسسة الأردنية لتطوير المشاريع الاقتصادية ” جيتكو”، وقمت بإنشاء أول معمل متكامل لصناعة الأدوات الخشبية لتربية النحل، ومصنع متخصص في الشمع”.
بالقرب من منحلة الربابعة بسنوات كان وجيه الداعور عاد من رحلة علم بالخارج لتعلم تربية النحل، بعد أن كان ذاع صيته بالعائلة بهوايته بتربية النحل، برفقة شقيقه أحمد الداعور الذي تتلمذ ذات يوم على يده، يقول الداعور”: حاول أخي الخروج بتربية النحل من المرحلة التقليدية، إلى الخلايا الحديثة، والتي لقيت رواجا في عالم تربية النحل على الصعيد المحلي، ومن ثم امتهنا هذا العمل، حتى ذاع صيته اليوم ليصبح الرقم الصعب في تربية النحل.
ويضيف الداعور:” تتمتع بلاد الشام بتضاريس جغرافية متعددة، ففي الأردن حبانا الله بمناطق جبلية، وأخرى صحراوية، ومنها المنخفضة، التي شكلت على مدار السنوات السابقة بيئة خصبة تكيفت معها خلايا النحل بمختلف فتراتها الزمنية، وهذا في نهاية المطاف هو ما شكل تنوع الأعسال الأردنية، فنحن نشتهر بعسل الحمضيات بشكل كبير”.
“ترتفع نسب الأحماض التي توجد في رحيق أزهار الحمضيات، مقارنة مع الأعشاب الطبيعية، وهي تنحسر في فترات زمنية محددة خلال العام وبالتزامن مع بدء فصل الربيع، وهنا تبدأ عملية ترحيل خلايا النحل من المناطق البعيدة، إلى حقول الأزهار والرحيق، وتبدء معها مرحلة “القطفة” الأولى للعسل كما يطلق عليها، ومع بدء ارتفاع درجات الحرارة نبدأ بالرحيل إلى المناطق الجبلية المرتفعة، فالنحل لا يحتمل درجات الحرارة المرتفعة في منطقة الأغوار، كما يقول مربي النحل عبد السلام العنبتاوي.
التنوع المناخي، والطبيعي، وانتشار النباتات الطبية، والعطرية، ساهم في إنتاج ما يقرب من 18 نوعا من أنواع العسل محليا، منها ما يعرف “بالجبلي، وعسل الربيع، والصحراوي، وعسل السدر”، ويتراوح سعر الكيلو منها ما بين 20-30 دينارا بحسب المواسم، والطلب عليه.
“تبدأ المرحلة الثانية من القطاف مطلع شهر حزيران من كل عام، فالغطاء النباتي في المناطق الجبلية يساهم في تنوع القيمة الغذائية للعسل، بدلا من الحصول على مصدر واحد من زهرة معينة، وهذا ما ميز العسل الأردني عن غيره من الأعسال في العالم العربي”، كما يروي العنبتاوي لفريق المملكة.
التغير المناخي ضيف ثقيل؟
قبل ربع قرن بدأ النحال عبد السلام العنبتاوي بالتنبه إلى قلة إنتاج خلايا النحل في منحلته، كان يسمع في نشرات الأخبار عن تغيرات مناخية تعصف بالعالم ككل، لكنه في ذاته كان على يقين بأن ما يحدث ما عبارة عن اختلالات في الموسم، وأنه سيعوض خسارته في المرات المقبلة، يقول العنبتاوي”: تغير جذري عصف بكميات الإنتاج خلال السنوات العشر، أذكر أنه في منتصف التسعينيات كانت الخلية الواحدة تنتج من 15-25 كيلو غراما من العسل في الموسم الواحد، واليوم الخلية لا يتجاوز الإنتاج فيها 7-8 كيلو غرامات.
العديد من العوامل تتوقف خلف تفاوت نسب إنتاج العسل على ما يقول مربي النحل أحمد الداعور، والذي يتفق برأيه مع ما جاء به العنبتاوي، ويضيف:” منتصف الثمانينيات كان يصل إنتاج الخلية الواحدة إلى 30-40 كيلو عسل، واليوم لا يتعدى الإنتاج 12 كيلو غراما، فظاهرة التغير المناخي ضاعفت من اختلالات المواسم الشتوية، التي تسببت في نهاية المطاف بحالة من عدم الاستقرار الجوي، ناهيك عن اختلاف مناطق سقوط الأمطار المعتاد عليه في المملكة، وهذا ما تسبب في نهاية المطاف بانحسار البقع الخضراء التي يتغذى عليها النحل، وانحباسه داخل الخلايا لأيام متعددة.
يكمن التأثير المناخي على مربي النحل كما يشرح العنبتاوي:” في بعض المواسم نشهد هطولات مطرية كبيرة، وغزيرة، حينها يبقى النحل داخل الخلايا ولا يغادرها، ويلتهم العسل الذي قام بتجميعه خلال الأيام السابقة، مما يساهم في نقصان كميات الإنتاج، بالتزامن مع ذلك قد تأتي موجة رياح قوية تقتلع فيها النباتات، أو يسقط الزهر عن الشجر، وهذا أيضا ينعكس سلبا على الكميات.
“يعرف التغير المناخي بأنه تغير في الأنماط المناخية، من معايير مثل الأمطار، والحرارة، والرطوبة، لفترات زمنية طويلة، بحيث لا يمكن الاعتماد على قراءات لسنة، أو سنتين، ولا حتى عشر سنوات فالتغير المناخي هي ظاهرة يجب أن تمتد لعشرات السنوات وتؤثر في نمط معين، بحيث يصبح هذا النمط ثابتا”، كما يقول أستاذ الموارد الطبيعية والبيئية في جامعة العلوم والتكنولوجيا الدكتور محمد ربابعة.
ويضيف ربابعة: “التذبذب الذي نعاصره اليوم، والانقلاب في المواسم المطرية من عام إلى آخر لا يمكن أن يطلق عليه تغير مناخي، لكن ما نلاحظه اليوم من خلال تتبع سقوط الأمطار خلال السنوات الماضية، أنه قد يحدث جفاف في إحدى السنوات لكن في السنة التي تليها ترتفع نسب الأمطار عن 100%، من المجموع المطري المتوقع، لكن المعاناة التي يعانيها النحال من قلة الإنتاج هي ليست مرتبطة بالتغير المناخي بشكل مباشر، وإنما مرتبطة بطريقة إدارة هذا النحال للمنحلة، والكثير من العوامل منها اتساع الرقع العمرانية على حساب الأراضي الزراعية، وأيضا قطع الغابات، وغيرها من الممارسات التي أثرت على الغطاء النباتي بشكل مباشر.
لا يوجد إحصاءات رسمية توضح الكميات الحقيقية لإنتاج العسل في المملكة، لكن تقدر الكميات بحسب نقابة النحالين الأردنيين بنحو 340 طنا، وذلك خلال عام 2020، تنتجها ما يقرب من 60 ألف خلية، فيما يصل عدد النحالين إلى نحو 1400 نحال.
الخلايا المعزولة…. آخر أوراق التوت
رغم ما يتعرض له قطاع تربية النحل على مدار السنوات الماضية، ونقصان كميات الإنتاج، يرى العنبتاوي نورا يلوح في الأفق، فهو يستذكر مقولة قالها عالم الفيزياء الألماني ألبرت آينشتاين قبل أكثر من نصف قرن “إذا اختفى النحل من كوكب الأرض فلن يبقى للإنسان إلا سنوات قليلة ليعيش بعده”.
لكن أين يقف اليوم قطاع تربية النحل؟ سؤال يطرحه أستاذ المواد الطبيعية والبيئة في جامعة العلوم والتكنولوجيا الدكتور محمد ربابعة، بالتزامن مع غياب الإرشاد الحكومي عن القطاع، ويترافق ذلك مع قلة عدد أصحاب الاختصاص في هذا القطاع، فالبعض يتوجه له بغية الحصول على مشروع استثماري، وليس بهدف النهوض به أو تطويره.
إذن ما الحل، في ظل تحذيرات أممية تصدر منذ سنوات تحذر من خطورة التلوث الجوي، والتغير المناخي، وما يمثلانه من تهديد على النحل، وما تبقى من طيور، وحشرات، تعد الملقح الرئيس لأكثر من ثلثي الزهور والنباتات في العالم؟
الحل على ما يقوله الربابعة يكمن في تصميم خلايا معزولة، وجاءت الفكرة من دورة حياة النحل وقدرتها على التكيف والبقاء لأكثر من 120 مليون عام، فقد مرت عليها تقلبات مناخية أسوأ مما قد يمر على القطاع في الوقت الحالي، فالنحل في البر كان يعيش في تجاويف الأشجار وفي القطوع الصخرية وهذه كانت معزولة بشكل كامل، وبهذا استطاع النحل العيش داخل هذا التجويف، بل إنه ضاعف من كميات إنتاجه، لعدم تأثره بارتفاع درجات الحرارة أو انخفاضها، وكذلك الهطولات المطرية التي تستمر لأيام، فتغير نمط تربية النحل من الصناديق الخشبية الرقيقة، يجب أن يتحول إلى التفكير بتربية النحل في صناديق معزولة، في يومنا الحالي.