هلا نيوز منصف الوهايبي
منذ عامين التقيت أحد طلبتي القدماء، ممّن صرف همّه إلى العمل التجاري المتنوّع. وقد افتتح له محلّا لبيع الثلج، يقع في أحد مداخل المدينة. وكنت أمرّ به أحيانا، فآخذ حاجتي من الثلج؛ ونأخذ بأطراف الحديث في كلّ شيء تقريبا اطّرادا واستطرادا. وذات مرّة قلت له: لِمَ لا تزيّن هذا المحلّ الذي يدرّ عليك الخير؟ قال مستغربا: كيف؟ قلت: بلافتة إشهاريّة غير هذه العادية «بيع الثلوج»، كأنْ تكتب مثلا بالبند العريض «هنا يباع الثلج باردا جدّا». وأخذت صاحبنا نوبة من الضحك، وهو يقول لي: أنت تمزح كعادتك سي المنصف. وأنا أقول له مبتسما جادّا: جرّب هذه، وسترى.. لن تخسر شيئا.. فقد جرّبها قبلك الظرفاء من أهل حمص.
ورويت له ما شاهدته في بدايات القرن، وأنا في بورتو في البرتغال: إشهار فنّيّ للسياحة الشتويّة، في شكل مونتاج سينمائي ذكيّ: زوج يعود ليلا من رحلة طويلة إلى بيته، دون أن يخبر زوجته. كان الثلج يتساقط، فيتسلّل إلى الشقّة، ويفتح الباب بكل لطف وهدوء؛ ويقترب من باب الصالون، ويطل من ثقب المفتاح؛ فيرى زوجته جالسة إلى المدفأة، في ثوب شفيف. ينزع ثيابه، ويدفع الباب؛ ليباغَت وهو عارٍ تماما، بوالديْ زوجته العجوزيْن قابعين في أريكة خلفيّة.
وترتسم الجملة الإشهارية «أنا لا أنسى أن هناك سياحة شتويّة للشيوخ والعجائز في هذه البلدان». وتكتب أسماء بلدان وفنادق مع صور خاطفة لعالم الصحراء والنخل. كان هذا الإشهار وقتها، والبرتغاليّون يحتفلون في بورتو عاصمة للثقافة الأوروبيّة؛ محور نقاش بيننا حول فنيّة الإشهار والفكاهة، شدّ انتباه الكثيرين منا.
إنّ «الفكاهة» ليست «قيمة غريبة عن الجماليّة» على نحو ما تقول بذلك بعض الجماليّات الفلسفيّة. ذلك أنّ الأمر يتعلّق بنوع من اللعب أساسه الكلمات نفسها، أو هو بعبارة أخرى تلاعب بالكلمات أو لعب بها وعليها. فإذا كان من أظهر وظائف اللغة التّخاطب والتّواصل، كان من الطبيعي أن يكون كلّ جزء من اللغة قابلا للفهم؛ أو أنّ الشكل اللغوي لا يستخدم إلاّ بمعنى مفهوم أو هو قابل للفهم. وإذا استعمل المتكلّم كلمة في معنى مختلف، أو هو استعملها حسب المعنى المتعارف في الظاهر، وكان قصده معنى آخر، فإنّ حصيلة ذلك ليس الغموض كما هو الشأن في اللغة الخاصّة، وإنّما المعنى المزدوج. وهذا المعنى هو الأساس في النصّ الساخر حيث تتـفكّك مفهوميّة اللغة أو هي تتعطّل، ويخيب «أفق التوقّع» لدى المتلقّي. وهذا هو المنشود عادة، من المزحة أو الفكاهة حيث تنعقد الأشياء وهي تتفكّك وتتحلّل. وهذا إنّما يتكشّف في ضوء المقارنة بين اللغة الخاصّة واللغة المشتركة. والأولى «مضلّلةّ» بطبعها، بل هي تخدع القارئ إن هو صدر في إدراكها عن اللغة المشتركة. فهي لا تنتج دلالات خاصّة فحسب، وإنّما تنفتح في ذات اللحظة التي تنغلق فيها. ويكفي أن نذهب إلى «الخاصّ» فيما «الواقعيّ» هو المقصود، أو أن نذهب إلى المعنى الحرفيّ، فيما المضمر هو المقصود.
قلّة هم الذين يملكون حسّ النكتة، أو الظرف والدعابة والفكاهة؛ ناهيك عن «الدعابة السوداء» التي تعالج الحياة بعنف وقسوة، حيث المبالغة أو الإفراط أو اللعب بالمحظور أو حتى بالمقدّس هو قانون هذا النوع كما هو الشأن في فنّ الكاريكاتير أو التقليد. ولهذه المسوّغات حتى لو كانت الفكاهة مغالاة أو تحريفا لمعنى أو تشويها لحقيقة، تأخذ العدالة في البلدان المتقدّمة التي تراعي حرّيّة التعبير، الكوميدي و«الفكاهي» بالحسنى وبكثير من العطف والرفق. ذلك أنّ هذه الحرّيّة تجيز للفنّان أن يغالي في رسم الملامح؛ وكأنّه يعجّل في إنضاج ضحكنا أو انتزاع إعجابنا. بل إنّ من القضاة من لا يتردّد في «الاعتراف بالحق في الوقاحة والسفاهة». ومن وجهة نظر القانون، فإنّ اللياقة أو الأدب في السياق الذي أنا به، أمر لا طائل فيه. ويرى البعض أنّه ليس من عمل القاضي، كلّما تعلّق الأمر بالفكاهة، أن يدقّق التمييز بين الشرّ والخير أو بين الأشرار والطيّبين أو بين القبيح والجميل أو بين الصحيح والفاسد، أو بين الزوان والقمح كما يقال.
وحتّى لو أخذنا برأي القائلين إنّ هذه المدوّنات الفكهة أو «الوقحة» تقع على هامش الفنون، فهي اليوم تنال حظوة كبيرة عند جمهور الناس لأنّها «أقصر طريق بين الناس»؛ أو لأنّها صارت تواجه لا عندنا فحسب وإنّما أيضا في البلدان الغربيّة أو بعضها، التهديدات المتكرّرة بالحظر، بالرغم من أنّه لا وجود لقانون يحظر الفكاهة من حيث المبدأ. وقد يخشى البعض أن يدخل ذلك تحت طائلة القانون الأوروبي الجديد للخدمات الرقميّة الذي ينصّ على اتخاذ إجراءات صارمة «ضدّ المنشورات التي تحتوي على معلومات غير قانونية وحماية المواطنين الأوروبيين من المعلومات المضلّلة والخطابات التي تحضّ على الكراهية والعنف…»
يقول إيونسكو: «حيث لا فكاهة، لا إنسانية». وتلخّص المادّة العاشرة من الاتفاقية الأوروبيّة لحقوق الإنسان الأمر على أنّ «لكل فرد الحقّ في حرية التعبير». ويشمل هذا الحق حرّية توصيل الأفكار، سواء كانت مضحكة أو لا. على أنّ حرّية التعبير في مثل هذه الأعمال «الفنيّة» مستمدّة من إعلان دارفور للحقوق والحرّيات التي تنصّ على أنّه من حقّ كلّ مواطن «أن يتكلّم ويكتب ويطبع بحرّية…». وهذا يعني حرّيته في استخدام أيّة وسيلة كانت ورقيّة أو إلكترونيّة أو كتابا هزليّا أو كاريكاتيرا أو تمثيلا أو إيماء… بل التعبير بشكل جماعيّ أيضا مثل الكرنفالات والمسيرات… وأمّا مطالبة الفكاهي المبدع بمراعاة قيم «المقدّس»، فستفرغ الفكاهة من كل محتوى سياسيّ أو فكريّ. ذلك أنّ القبول بالمنطق التحريمي يجب في هذه الحال أن يشمل كل المعتقدات أكانت دينيّة أم لا، بما فيها السخرية من الرموز الوطنيّة كالعلم، أو «ازدراء الألوان» أو السخرية من المتنوّرين أو المتعصّبين، وحتى «عبدة الشيطان» الذين يرفضون رسومه الكاريكاتوريّة… فلا بدّ في هذه الحال من الاحتكام إلى القصد أو إلى عيار النيّة. وتؤكد هذا قضيّة البرقع ثلاثي الألوان، فقد حوكم صاحب هذا «الزّيّ المسرحي» المندّد على ما يبدو بقانون الحجاب الكامل إذ اعتبره تحريضا على كراهية الأجانب؛ بيْد أنّ المحكمة برّأته من تهمة استعمال العلم بشكل مهين، بالرغم من صعوبة رسم الحدّ الفاصل/ الواصل بين النيّة الإبداعيّة والوقاحة أي قلّة الحياء أو إرادة التدمير والإساءة.
كلّنا يعرف أنّ لهذه «الأنواع» أو»الأجناس» غير الأدبيّة أو «الهجينة» بالمعنى المتعارف للأدب، مؤسّساتها وعلومها النفسيّة والسوسيولوجيّة والسيمولوجيّة. لكن لها أحابيلها وفخاخها أي تلك التي تعقد صلتها بالمدوّنات أو النصوص الساخرة. وربّما لا رابط بينها سوى «التهجين» الذي هو أمارة قوّتها لا ضعفها. والكتابة كما ذكرت في غير هذا السياق «ورشة» مشرعة على موارد شتّى، وتشبيك بين أنواع وأجناس متباينة الأنساب، ومرجل لا غطاء له، يغلي دون أن يتلاشى بخاره.
والمادّة الفكهة هي التي تخاطب النوازع والميول والعقول، وكل ما يتحكّم في سلوك الفرد أو في ذائقته وتفضيله بضاعة أو فاكهة على أخرى.
والعلاقة في العربيّة بين «الفاكهة» و«الفكاهة» بمعنى المزاح، فيها من اللطائف ما يستدعي وقفة غير هذه. فالرجلٌ الفَكهٌ هو الذي يأْكل الفاكِهةَ، والفاكِهٌ الذي عنده فاكهة، أو الذي كَثُرَتْ فاكِهتُه، أو الناعم المتعجّب بما هو فيه، كما في القرآن. والفَكِهُ من الكلمات الأضداد، فهو المزّاح طيّب النفس، وهو أيضا الذي يَنالُ من أَعراضِ الناسِ ويغتابهم. وفَكَّهَهُم بمُلَح الكلام أَطْرَفَهُم، وما إلى ذلك ممّا يجده القارئ في معاجم العربيّة. وإذا كان الضحك خاصاً بالإنسان كما يقال أو هو متأصّل في الطبيعة البشريّة، فلنقس عليه الفكاهة التي هي «من أسباب الضحك»، بل لنجعلها حقّا من حقوق الإنسان مصانا مثل حرّية التعبير وحرّية الضحك وحرّية إضحاك الناس.
مررت منذ أيّام بمحلّ صاحبنا، فوجدته قد كتب في مكان بارز»هنا يباع الثلج باردا». واستقبلني بفرح غامر، وهو يقول: «عملت بنصيحتك، وكلّ من يمرّ اليوم بالمحلّ، تستوقفه اللافتة؛ فيقتني حاجته من الثلج وأكثر، وهو يضحك، ويقول «وهل ثمّة ثلج غير بارد؟» على أنّي قلت له: «ولماذا حذفت «جدّا»، فهي مفعول مطلق، أو نائب عن المصدر؛ وله دلالة.» وأضفت مازحا: «قد يفتح أحدهم محلاّ مشابها مقابلا لمحلّك، كما يفعل التونسيّ عادة، ويكتب «هنا يباع الثلج باردا جدّا»، وينفضّ الزبائن من حولك إلى محلّه».
لنضحك ونتفكّه، ولنتذكّر قولة نيتشه «أضحك من كلّ المعلّمين الذين لا يسخرون من أنفسهم» أو ما يقوله بطل «حلاق إشبيلية» للفرنسي بيير بومارشيه: «أبادر إلى الضحك من كل شيء خشيةَ أن أدفع دفعا إلى البكاء عليها».
*كاتب من تونس