هل يمكن لأم أن تبيع فلذة كبدها؟ هذا ما أقدمت عليه سميرة (اسم مستعار)، التي تقطن في محافظة المفرق، وقد باعت طفلتها “غير الشرعية” لأسرة، حرمت من نعمة الإنجاب، متجاوزة الإجراءات الرسمية منذ 2013، لتعليمات الاحتضان التي تطبقها وزارة التنمية الاجتماعية.
وما تزال هذه القضية المركبة منذ 5 سنوات، وفق ملفات القضاء التي حصلت “الغد” على نسخة منها، غير محسومة، وتدور في أروقة المحاكم، للفصل فيها.
ارتبطت سميرة بعلاقة غير شرعية مع ابن صديقتها، التي لجأت إليها بعد طلاقها من زوجها، جراء خلافات بينها وبين عائلتها دفعتهم للتخلي عنها، لتنتقل للعيش مع صديقتها وابنها الشاب، وتنشأ بينهما علاقة غير شرعية جرت بـ”رضاها”، وتمخضت عن حملها.
انتظرت سميرة مولودتها، وبعد إنجابها وقعت في مشكلة، فهي تعيش في بيت صديقتها، إذن ماذا ستفعل، وكيف ستتصرف، ولمن تنسب طفلتها؟ وفي هذا الوقت الحرج الذي كانت غارقة
فيه بتفاصيل ترتيب حياة طفلتها بخاصة أمام رفض “والدها غير الشرعي” الاعتراف بأبوته لها، وفق ملف القضية.
أمام ذلك كله، وقبل أن يتعلق قلبها بالطفلة، كانت صديقتها قد نسقت مع عائلة أردنية محرومة من الإنجاب لبيع الطفلة، فحضرت هذه العائلة ودفعت أجرة القابلة القانونية وقدرها 50 دينارا، ثم أقنعتها صديقتها بـ”بيع” طفلتها للعائلة، مقابل الحصول على 2000 دينار، وتغطية أجرة المنزل والكهرباء والماء، وباعت طفلتها التي حظيت باسم جود في العائلة الجديدة من دون أن تسجل في دائرة الأحوال المدنية.
فكيف انكشف سر الأم التي باعت ابنتها، بعد عامين من التكتم والأسرار؟
وفق اعترافات المتهمة سميرة لدى الجهات الأمنية، أنه بعد عامين من ولادة طفلتها الأولى، حملت مرة أخرى من الشاب ذاته من دون زواج، فأرادت بيع جنينها الجديد وهو في بطنها، لأسرة أردنية جديدة محرومة من الإنجاب منذ 11 عاما، وعبر صديقتها التقت السيدة الراغبة باحتضان المولود المقبل، على أن تسجل رسميا طلب احتضان في وزارة التنمية، وأخبرت سميرة السيدة بأنها “تريد بيع جنينها قبل الولادة، لأنها لا تستطيع الإنفاق عليه”.
ولتتم الصفقة، تحمست سميرة وأخبرت “الزبونة” بـ”أنها قبل نحو عامين، وضعت ابنتها لدى أسرة أردنية، وأسموها جود، وتقاضت مقابل ذلك مبلغا قدره 2000 دينار”.
فوجئت الزبونة بالأمر، ولم تصدق هذا الفعل، فكيف لأم أن تبيع طفلتها أو جنينها على هذا النحو، فما كان منها إلا أن بلغت مؤسسة حماية الأسرة بالقصة والمتورطين بها، وفق إفادتها أمام الجهات الأمنية.
ويأتي ما أقدمت عليه هذه الأم من بيع لطفلتها، وللمتورطين معها، وسط تكييف قانوني “شائك”، قد يندرج تحت عقوبة جناية الاتجار بالبشر، أو التدخل بجنحة الاتجار بالبشر، والاستناد على قانون إبطال الرق، أي بيع شخص لآخر، خلافاً لأحكام المادة (5/1)، بالإضافة لتهم أخرى، جرى الاستناد فيها على قانون العقوبات.
وبصرف النظر عن فعل الأم والمتورطين، وما صدر بحقهم من عقوبات مؤخرا، إلا أن خبراء اجتماعيين وقانونيين، ذهبوا الى زاوية أخرى، معتبرين بأن هذه الجريمة تشير الى “أزمة أخلاق”، وهذا النمط من الجرائم غريب عن مجتمعنا.
هذه القصة بما تحمله من تفاصيل، ليست فيلما دراميا أو حبكة لمسلسل اجتماعي. إنها قصة حقيقية، كشفتها الصدفة، بعد أن تكتم عليها متورطون بها، وضحيتها طفلة جاءت إلى هذه الحياة عن طريق علاقة غير شرعية، تخلى عنها والدها، أما أمها فانقادت وراء المال، بذريعة عجزها عن منح ابنتها حياة كريمة، وباعتها.
ويعاقب التعدد المعنوي للجرائم المنصوص عليها في المادة (57/1) من قانون العقوبات في هذه الحالة بالعقوبة الأشد، اذ تنص المادة (57/1) منه على أنه “إذا كان للفعل عدة أوصاف ذكرت جميعها بالحكم، فعلى المحكمة أن تحكم بالعقوبة الأشد (ادغام العقوبات)، ويتم تنفيذ العقوبة الأشد بحقها، وهي وضعها بالأشغال المؤقتة مدة ثلاث سنوات، والرسوم والغرامة خمسة آلاف دينار اردني”.
أما التكييف القانوني في ظل “عدم قيام الدليل”، فلم يجر تكييف القضية بالنسبة لمحتضني الطفلة والوسطاء (صديقة سميرة، ووالد الطفلة الحقيقي) من تهمة التدخل بالاتجار بالبشر.
هذه القضية، بصرف النظر عن التهم الموجهة لجميع الأطراف، إلا أنها تلقي الضوء على ملف الاحتضان والأزمة الأخلاقية التي يمارسها بعض الأشخاص في المجتمع، لتصل الى حد “بيع الأطفال”، وفق الخبراء.
الخبير الحقوقي ورئيس جمعية المدينة الفاضلة للمساعدات الإنسانية الدكتور مهند الشبلي، أكد أن هذه القضية بأركانها، لا تكيف ضمن جناية الاتجار بالبشر أو التدخل بالاتجار، من حيث لم تقم الوسيطة، ووالد الطفلة غير الشرعية، باستغلال الأم في بيع طفلتها، او حتى تقاضيها لمبالغ مالية لبيع طفلتها.
وأوضح الشبلي، أن “التصنيف يعتمد على الأفعال، من استقطاب أشخاص أو نقلهم أو إيوائهم أو استقبالهم بغرض استغلالهم. بالإضافة للوسائل المستخدمة لارتكاب تلك الافعال وأغراض الاستغلال”.
وبشأن الوسائل المستخدمة لارتكاب تلك الأفعال، فإنها تكون عن طريق “التهديد بالقوة، أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر، أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال السلطة، أو استعمال حالة ضعف، أو بإعطاء أو تلقي مزايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على هؤلاء الأشخاص”، وفق الشبلي.
لكن هذه القصة، “تعطي مؤشرا للجهات الأمنية، بتكثيف جهودها لاكتشاف حالات جديدة على هذا الغرار، تحسبا من أن نصل في الاردن لما وصل إليه الغربيون، في قضايا استئجار الأرحام واستغلال ضعف النساء، واجبارهن على الحمل والولاده لبيع الأجنة”، وفقه.
واعتبر الشبلي، أن مثل هذا النوع من القضايا، مؤشر خطر إلى “الانحطاط الأخلاقي”، داعيا لـ”وقفة حقيقية من الاطراف المعنية الرسمية والمجتمعية كافة، للتصدي لمثل هذه الممارسات التي تعتبر غريبة عن مجتمعنا”.
وبين أن أكثر مسائل ظاهرة جرائم الاتجار بالبشر إثارة للجدل، هو تحديد قائمة الأنشطة التي يتعين أن تكون محلاً للتجريم، وتحديد أنماط السلوك الإجرامي، وأركانها القانونية، وهو ما يثير جدلاً حول مدى انطباق نصوص القوانين الجنائية الأخرى عليها.
“إننا نعيش أزمة أخلاق، وبعض القيم بدأت تنهار في مجتمعنا، في ظل تفكك بنية المجتمع، وتردي الأوضاع الاقتصادية. كلها أسباب شجعت على ظهور هذه القصة التي تعتبر حالة فردية”، وفق الاستشاري الاجتماعي النفسي الدكتور موسى مطارنة.
واستغرب مطارنة مثل هذه السلوكيات الغريبة علينا، والتي باتت تصدر عن أفراد في مجتمعنا، لافتا الى ان ذلك يتطلب دراسة معمقة لتفسير الحالة النفسية للمتورطين، بداية من الأم التي باعت طفلتها وتفكر ببيع جنينها الثاني، وأب لطفلة غير شرعية يتنصل من مهامه، واستمر بعلاقته غير الشرعية، وصولا لموافقة الأسرة التي “تتعطش” لاحتضان طفلة بطريقة غير قانونية، وحرمانها من أبسط حقوقها بأن تسجل في دائرة الأحوال المدينة؟
أما بالنسبة لدور وزارة التنمية، وبعض ملاحظات من يرغب بالاحتضان، بان الإجراءات الرسمية تأخذ وقتا طويلا ومعقدا، أكد الناطق الرسمي باسم الوزارة أشرف خريس لـ”الغد” أن تعليمات الاحتضان لعام 2013 صدرت لحماية الطفل والاسرة المحتضنة والمجتمع معا.
وأشار خريس، إلى أن سياسة الوزارة، تتطلع لتعزيز برامج دمج الأطفال في الأسر، والسير ببرامج زمنية واجرائية محددة، لضمان عدم تأخير برامج الاحتضان، وفقه.
وأضاف إن برنامج الأسر الراعية البديلة، رديف لبرنامج الاحتضان للحد من إدخال الأطفال المحتاجين للحماية والرعاية للمؤسسات الإيوائية، وتقليص مدة مكوثهم فيها، بتقديم خدمة مجتمعية قائمة على الرعاية الأسرية البديلة.