هلا نيوز – الاثنين ٦-٢-٢٠٢٣
بروين حبيب
لا أعتقد أني قرأت رواية مروعة مثل «العين الزرقاء الشاحبة» للكاتب الأمريكي لويس بايارد (صدرت عام 2003) في أدبنا العربي، وهي الرواية التي حولها المخرج الأمريكي سكوت كوبر إلى فيلم تم بثه على منصة نتفليكس مطلع هذا العام، محققا نجاحا باهرا. فنحن في عالمنا العربي نعيش الترويع في كل أنواعه في الواقع، لكن أدبنا يبقى بعيدا عن «أدب الجريمة» الذي برع فيه أدباء الغرب، وعلى قمتهم الأمريكيون.
صحيح أن الرواية العربية قليلا ما تتسلق سلالم السينما وتطل على الجمهور الواسع من خلال أضوائها، إلا أن المتتبع لسينما هوليوود يكتشف بسهولة أدباء متنوعين، خاصة أولئك المختصين في السيرة والقصة البوليسية البارعة الحبكة. ويمكننا طبعا أن نضيف كل ما هو خيالي فانتازي أو علمي. يذهب المتفرج إلى الأدب من خلال السينما والعكس صحيح أيضا. وهذا بالضبط ما حدث لي فبعد مشاهدة الفيلم قررت اقتناء الرواية.
قصة «العين الزرقاء الشاحبة» تبدأ بجريمة غامضة، تلتها جرائم أخرى، امتزج فيها التحقيق لحل لغزها باستحضار الشاعر إدغار ألان بو، الذي له الفضل في ابتكار أدب التحري، وقد روت الكتب حياة غامضة وصعبة عاشها حين اتخذ من الكتابة في زمنه مورد رزقه الوحيد، وقد أدى دوره في الفيلم الممثل الشاب هاري ميلينغ ذو الشبه الفظيع بينه وبين بو الحقيقي، أما المحقق الذي تقمص شخصيته الممثل كريستيان بايل فقد أبهرنا كعادته بذلك الدور المعقد المليء بالمفاجآت.
تستوقفنا قبل بداية الفيلم عبارة بو «الخط الفاصل بين الحياة والموت غالبا ما يكون ضبابيا وغامضا، من يدري أين ينتهي أحدهما ويبدأ الآخر» وفي الحقيقة أدب الجريمة لا يذهب فقط للإثارة وشد الأعصاب، إنه أدب يذهب بعيدا في أعماق الحياة، ويقدم أوجهها العديدة بشكل فلسفي لا يخطر على بال.
لم يعش إدغار ألان بو طويلا، بالكاد بلغ الأربعين، ومات موتا غامضا، لكن حياته كانت مثل أفعوانة مجنونة، اخترقت كل أنواع اليأس والفقر والخوف، الإدمان، اليتم المبكر جدا، قسوة الموت الذي أخذ أقرب الناس إليه، ثم الفشل الذي لاحقه لإيجاد مهنة توفر له الاستقرار، فقد انتقل بين وظائف كثيرة، كان قدره الشعر، والشعر لا يطعم صاحبه خبزا. في إحدى السنوات التحق بو بالجيش، ويبدو أن هذه الفترة جذبت كاتب الرواية، فأطلق العنان لخياله لبناء قصة كان فيها الشاعر الحذق مكتشف الغموض خلف كل الجرائم التي حدثت في الأكاديمية العسكرية، وليس المحقق الشهير الذي استقدم لإنقاذ سمعتها، بعد توالي الجرائم فيها. شيء يشبه الحقيقة لشدة إقناعه، إلى أن يخرج عن سياقه الواقعي فيدخل الجانب الغرائبي، ليوهمنا بأن القصة انتهت، لكن ـ كما في القصص البوليسية الأمريكية الناجحة – أكثر الشخصيات براءة هي المسؤولة في الغالب عن كل الجرائم الغامضة التي حدثت، وهنا يأتي دور الشاعر، الذي كشف محنة المحقق أوغوستوس لاندرو الأرمل الذي اختفت ابنته الوحيدة لأسباب غير معروفة. يلعب الشعر دورا مهما في قصة الفيلم، فيعلمنا التأمل وفك أسرار الكلمات، خلال تحقيق بطيء ومطول، وهذا دور لا يؤمن به أعداء الشعر. لكن في فيلم مثل «العين الزرقاء الشاحبة» لا يخلو من حوارات صلبة وسلسة، تأسرنا اللغة وتكون عنصرا قويا لزيادة جاذبية الفيلم المصمم بطريقة ممتازة.
لا شك في أن متانة البناء السردي كانت أقوى في الجزء الأول من الفيلم، ولعلها في الرواية أيضا، وهذا مجرد تخمين – كوني لم أقرأ الرواية – لأن تقلبات سريعة وغير متماسكة سرعان ما جعلت الأحداث تسير في منعرجات كان بالإمكان الاستغناء عنها، فالفصل الأخير المقتضب، الذي يمثل النهاية كان كافيا شافيا، وكان في غاية الجمال وأكثر من مؤثر، حين انكشف المحقق أمام الشاعر الشاب، فعرفه أنه القاتل المنتقم من مغتصبي ابنته التي أنهت حياتها انتحارا. ولأن جريمة الاغتصاب يتملص مرتكبوها من الأحكام القانونية التي يستحقونها، سواء في مطلع القرن التاسع عشر، أو القرن العشرين أو قرننا الحالي، فقد نفذ الأب المفجوع في ابنته عدالته بالمنطق الذي رآه مناسبا، مع تواطؤ متوقع من الشاعر بو ذي المشاعر الجياشة، وتفهمه لوضع إنساني لا يمكن إصلاحه في العلن في ذلك الوقت. لكن المحزن في الفيلم هو التلميح القوي إلى أن هذه الجريمة الشنعاء لا تزال تلتهم ضحاياها وتدفنهم بطريقة أو بأخرى في قبور الصمت، دون تحقيق العدالة وتنفيذ القصاص في المجرمين كما يجب. ردة فعل الأب وتفهم الشاعر لعمق مأساته كانت رسالة للظلم الذي عبر الأزمنة تجاه النساء. وسواء كان اغتصابا، أو على نطاق أوسع تمييزا جنسيا أو تحرشا، أو تشويها أو دعارة أو زواجا قسريا، أو حتى مقاومة لمثل هذا العنف المبالغ فيه، فإن المنتج الثقافي أو الأدبي أو الفني يعتبر هنا شيئا آخر غير المصادر والوثائق المقدمة. إن مسألة التخييل والتمثيلات لرصد الأفعال وردات الأفعال وحدها تنتج القيم والقواعد.
قد تكون السينما الغربية والأدب الغربي مألوفان لدينا بمعطياتهما هذه، وهذا يصنفهما كمنتج فني «للآخر» المختلف عنا، والواجب علينا مخالفته، لكن هل بقيت الحياة كما كانت منذ ربع قرن مضى على سبيل المثال؟
بكى المحقق أوغوستوس لاندرو ندما على جرائم اقترفها، مستسلما أمام الشاب إدغار، معترفا وراضيا بقراره، لكنه بكى أيضا لأن تصفية مغتصبي ابنته المنتحرة لم يعدها ولم يخفف من آلام فقدانه لها، كما بكى عجزه عن حمايتها حين كانت حية هو الذي ذاعت شهرته بأن لا لغز أو جريمة يعجز عن حلها. تمثلت الأبوة الحقة في ذلك المشهد المؤثر، ولسوف تتراءى أمام أعيننا جرائم الشرف المنتشرة في أقاليمنا الواسعة، حين ينحر الأب ابنته لغسل شرفه، في حالات متعددة قد تبدأ بحب بريء تغذيه الأقاويل بالإشاعات الدنيئة، أو باعتداء تكون فيه ضحية.
تكمن الفروقات هنا بين المجتمعات ليس فقط في طريقة عيشها وإرسائها لقواعد تخالف الفطرة الإنسانية، لكنها تمتد إلى المنتج الأدبي فنحن لا نزال نكتب انعكاسات أوجاعنا وبكائياتنا دون الذهاب خطوة واحدة أبعد مما نعيشه، تتعثر المخيلة العربية أمام أسلاك الممنوعات العرفية والدينية والسياسية، ولا تعبرها نحو هذه الكتابة التي تشبه معادلة رياضية مترابطة تتسلسل بشكل منطقي نحو نتيجة حتمية لا تشوه الطبيعة البشرية التي فطرنا عليها. ثمة إعادة نظر في معنى الأبوة خارج التغني الشعري الزائف بها، الذي يخفي الفجائع الكبرى المنتشرة في مجتمعاتنا، بدءا بتمجيد الذكورة وتحقير الأنوثة، إلى تقديس العذرية الجسدية وتصفية الأنثى عند أول «زلة فطرية» لمشاعرها نحو الآخر، أو اعتداء لم تستطع مقاومته.
قد تكون السينما الغربية والأدب الغربي مألوفان لدينا بمعطياتهما هذه، وهذا يصنفهما كمنتج فني «للآخر» المختلف عنا، والواجب علينا مخالفته، لكن هل بقيت الحياة كما كانت منذ ربع قرن مضى على سبيل المثال؟ هذا ما يجب أن نراه بوضوح، فالحياة لم تتوقف عند «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، أو «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، لقد ألقت جحافل من اللاجئين والمواطنين المذلولين في أوطانهم، أرواحها في مغامرات أنهت حياة المئات من أجل بلوغ ضفة الآخر، الذي رفضناه، وها قد تغيرت خريطة العالم الاجتماعية، وأصبح السؤال المحير لدينا حتى كنخبة: «لماذا يقرأ العربي الأدب الغربي المترجم بنهم، ويقرأ أدبنا باحتشام من باب الفضول؟»؟
لا يمكننا تخطي سحر الحبكة، ومدى غوصها في الأعماق البشرية، حتى إن المشاهد ذكرا كان أم أنثى سيدعم النهاية ويقبلها، حتى أثناء استنكاره لها. وهذا ما يجعلنا نتساءل ما جدوى الأدب إن لم يغير أفكارنا؟ دون شك هو وسيلة لإسماع أصوات المعذبين على الأرض، ونقل أوجاعهم، لكن وفق نموذج اليوم «العين الزرقاء الشاحبة» لا بد للأدب أن يستمد سلطته من قوة الكلمات وحبكة القصة، إنه نوع من الخطابة الساحقة بوجه جميل وأصابع ناعمة، ولعل هذا ما وصل إليه الأمريكيون في نتاجهم الأدبي فتأسست لديهم صناعة سينما عالمية تحقق سنويا تقدما مرعبا يشعرنا حقا بأننا نعيش في زمن إدغار آلان بو، وزمن الهيبة العسكرية، غير آبهين بالمكتسب الأدبي الذي يؤسس لأفكار جديدة ويرفع من قيمة الإنسان.
شاعرة وإعلامية من البحرين