كتب سمو الأمير الحسن بن طلال في ذكرى المولد النبوي قائلا : “لم يكن ميلاد المصطفى كميلاد سائر العظماء وإنما كان ميلاده ميلاد حضارة امتد عطاؤها من طنجة إلى جاكرتا ومن غانا إلى فرغانة. وطالت إشعاعاتها العلمية والروحية ما جاورها من ثقافات وتلاها من مدنيات”.
وأضاف: “تتجلى عبقرية المصطفى في قدرته على الجمع بين أنوار العرفان ومكارم الأخلاق، وبين الرحمة والسماحة والقوة والعدل، فكان مثالا للإنسان الكامل الذي وصفه الخالق عز وجل بأنه”رحمة للعالمين” واستحق بكل جدارة أن يكون ” خَاتَمَ النَّبِيِّينَ”.
وتابع بالقول : “لم تتوقف دعوة المصطفى على تقديم أفكار إصلاحية نظرية وإنما سعى بكل وسعه الى إقامة مجتمع إنساني عادل وقوي ومتراحم. فكانت دعوته أنموذجا للأيمان “الفاعل” الذي يجمع بين الايمان والعمل، ويسعى إلى تزكية النفس وبناء المجتمع، واخلاص العبودية لله وتحرير العقل والارادة، وإشعال جذوة الروح وتحفيز الهمم والعزائم”.
وأردف قائلا : “لقد قدم المصطفى للبشرية أنموذجين مترابطين، أولهما على المستوى الفردي حيث كان مثالا حيّا للايمان بالله والعمل الصالح، والسعي في مناكب الارض والضرب في أرجائها بكل عزم وقوة وإصرار. والانموذج الثاني يتمثل بالمجتمع الانساني الذي أقامه النبي في المدينة المنورة، وهو أنموذج يجعل المسلم أكثر ايمانا بإمكانية النهوض والتغيير ومواجهة التحديات والصعوبات التي تعيق بناء المجتمعات واصلاحها”.
وأضاف: “ما نريد استحضار من ميلاد المصطفى هو بناء “الشخصية المؤمنة” التي تفقه الواقع ومشكلاته وتنتقد الافكار والمقولات الخاطئة التي يتوارثها الناس عن آبائهم دون تدبر ولا تفكر، وهي كذلك شخصية تواصل العمل والبناء وتقبل كل ما هو صحيح ونافع وترفض كل ما هو خاطئ وضار”.
وأكد أنه “من نعم الله على البشرية أنه جعل الانبياء من بني البشر، يمشون على الارض يأكلون ويشربون ويتحدثون بلسان أقوامهم ويعيشون ويتألمون ويموتون، فقد أرسلهم الله إلينا من أنفسنا ومن داخل مجتمعاتنا حتى يكونوا أسوة حسنة لنا جميعا {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128) ومن لطائف المعاني التي اشتملت عليها الآية السابقة ما جاء في كتب التفسير أنه “قرأ: من أَنفَسِكُم، من النفاسة أَي: من أشرفكم وأفضلكم”. وقَوْله تعالى: (عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم) أَي: يعز عَلَيْهِ مَا يشق عَلَيْكُم، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الحَدِيث: بعثت بالحنفية السمحة”.
وشدد على أنه “لقد اجتمعت المودة والمحبة في ذات واحدة وهي شخصية المصطفى عليه الصلاة والسلام، فمحبته تتوسط محبة الله تعالى ومحبة أهل البيت الأطهار، كما يقول عليه الصلاة والسلام: “أحِبوا اللهَ لما يغْذوكم من نعَمِه، وأحِبُّوني بحُبِّ اللهِ، وأَحِبُّوا أهلَ بيتي بحُبِّي”(رواه الترمذي)”.
وتابع بالقول : “يعلمنا القرآن أن المودة تبدأ من ذوي القربى “قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ” (الشوى:23) والمعنى الأول للقربى هم آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، الذين يمثل حبهم فريضة على كل مؤمن ومؤمنة، كما يقول الإمام الشافعي:
يا آل بيت رســول الله حبـكـم فرض مـن الله فـي القرآن أنزلـه يكفيكم من عظيم الشأن أنـكـم من لم يصلي عليكم لا صلاة لـه.
ومن مظاهر عظمة المصطفى “عالمية رسالته” فهو لم يخاطب مجموعة عرقية أو أقلية قومية أو فئة طائفية وإنما خاطب الناس أجمعين، ولذلك نجد اليوم قوميات كبيرة قد آمنت برسالة الاسلام واتبعت تعاليمه كالعرب والفرس والترك والكرد والبربر وكثير من القوميات في شرق آسيا وفي إفريقيا، وهؤلاء جميعا يمثلون “أمة الاستجابة” الذين تقع عليهم مسؤولية الدعوة الى الايمان وفضائل الاخلاق جنبا الى جنب مع مسؤولية النهوض بالمجتمعات وتطوير العلوم والمعارف. فالحديث عن الهداية الايمانية، دون بناء مجتمع عادل ومنتج يسهم في تطوير الحضارة الانسانية، لا يجسد حقيقة الرسالة الاسلامية التي جاءت لإعمار الأرض وتحقيق “الحياة الطيبة” للجميع بكل ما تشتمل عليه هذه الحياة من معاني ومجالات اجتماعية واقتصادية وعلمية وبيئية.
واشار إلى أنه “تستوجب مسؤولية الأمة التي تتصدر مهمّة الدعوة أن تعبّر عن رسالة الاسلام ورقي تعاليمه وأن تعتصم بحبل الله ولا تستبيح التنازع والفرقة والانقسام. ولعل ما يحدث اليوم من نزاعات وانقسامات بين أبناء الأمة الاسلامية يمثل أكبر إساءة الى صورة الاسلام وروحه التوحيدية”.